نَدِمْتُ نَدَامَةَ الكُسَعِيّ لَمّا!
الكُسَعِيّ واسمه الكامل محارب بن قيس الكسعي، هو رجلٌ يُضربٌ به المثل في الندامة، فيُقال «ندمتُ ندامة الكُسعي». يُنسب إلى كُسَع (قبيلة في اليمن)، وقيل في نسبه غير ذلك.
الكُسَعِيّ واسمه الكامل محارب بن قيس الكُسَعِيّ، هو رجلٌ يُضربٌ به المثل في الندامة، فيُقال «ندمتُ ندامة الكُسعي». يُنسب إلى كُسَع (قبيلة في اليمن)، وقيل في نسبه غير ذلك.
يُذكر من خبره أنهُ كان يرعى إبله في البر فرأى شجيرة يصلح خشبها للسهام فسقاها من قربته وظل يسقيها كل يوم مما يحمل من ماء حتى استوى عودها وصنع منها قوسا وخمسة أسهم.
ثم أتى الرجل على أرض صخرية تكثر فيها الظباء، فكمن خلف صخرة ورمى ظبيا بسهم فقدح السهم في صخرة فظن الكسعي أن السهم قد خاب، وكمن حتى أتى سرب آخر ورمى ظبيا آخر فقدح السهم شررا في الصخر، وصنع الأمر نفسه بسهامه الخمسة، فاستبد به الغضب فهوى بقوسه على الصخرة فكسر القوس تكسيرا.
غير أنه بعدما خرج من مكمنه وجد 5 ظباء مصابة على الأرض، فعلم أن أسهمه كانت تخترق كل ظبي ثم تقتدح في الصخر، فندم على كسر قوسه. ثم قال:
ندمت ندامة لو أن نفسي تطاوعني إذا لقطعت خمسي
تبين لي سفاه الرأي مني لعمر أبيك حين كسرت قوسي
سارت ندامته مثلًا لكل نادم، فقال الفرزدق لما طلق امرأَته نوار وندم عليها:
نَدِمْتُ نَدَامَةَ الكُسَعِيّ لَمّا غَدَتْ مِنّي مُطَلَّقَةً نَوَارُ وَكَانَتْ جَنّتي فَخَرَجْتُ منه كَآدَمَ حِينَ لَجّ بِهِ الضِّرَارُ وَكُنْتُ كَفاقىءٍ عَيْنَيْهِ عَمْداً وَلا كَلَفي بهَا إلاّ انْتِحَارُ وَلا يُوفي بحبِّ نَوَارَ عِنْدِي فَأصْبَحَ مَا يُضِيءُ لَهُ النّهَارُ وَلَوْ رَضِيتْ يَدايَ بهَا وَقَرّتْ وَلا كَلَفي بهَا إلاّ انْتِحَارُ وَمَا فَارَقْتُهَا شِبَعاً وَلَكِنْ رَأيْتُ الدّهْرَ يَأخُذُ مَا يُعَارُ
وِكُسَعُ: حَيٌّ باليَمَنِ رُماةٌ، نَقَلَه اللّيْثُ، قال: أَو حَيٌّ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بنِ سَعْدِ بنِ قَيْسِ عَيْلانَ، ومِنْه غامِدُ بنُ الحارِثِ الكُسَعِيُّ، وقال حَمْزَةُ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ كُسَعَةَ، واسْمُه مُحَارِبُ بنُ قَيْسٍ، وقالَ غَيْرُه: هُوَ مِنْ بَنِي كُسَع، ثُمَّ مِنْ بَنِي مُحَارِبٍ، وهُو الَّذِي اتَّخَذَ قَوْسًا يُقال: إِنَّه كانَ يَرْعَى إِبِلًا لَهُ بوادٍ مُعْشِبٍ، وقد بَصُرَ بنَبْعَةٍ في صَخْرَةٍ فأَعْجَبَتْهُ، وفي اللِّسَانِ: في وادٍ فيهِ حَمْضٌ وشَوْحَطٌ، نابِتًا في صَخَرَة فأَعْجَبَتْهُ، فقال: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هذِه قَوْسًا، فجَعَلَ يَتَعَهَّدُهَا، حَتَّى إِذا أَدْرَكَتْ قَطَعَهَا وجَفَّفَهَا، فلَمَّا جَفَّتْ اتَّخَذَ مِنْهَا قَوْسًا، وأَنْشَأَ يَقُولُ:
يا رَبِّ سَدِّدْني لنَحْتِ قَوْسِي *** فإِنَّهَا مِنْ لَذَّتِي لِنَفْسِي
وِانْفَعْ بقَوْسِي وَلَدِي وعِرْسِي *** انْحَتُهَا صَفْرَا كَلَوْنِ الوَرْسِ
كَبْدَاءَ لَيْسَتْ كالقِسِيِّ النُّكْسِ
ثُمَّ دَهَنَهَا، وخَطَمَهَا بوَتَرٍ، ثُمّ عَمَدَ إِلى ما كانَ مِنْ بُرايَتِها وجَعَلَ مِنْهُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، وجَعَلَ يُقَلِّبُها في كَفِّهِ، ويَقُولُ:
هُنَّ ورَبِّي أَسْهُمٌ حِسانُ *** يَلَذُّ للرَّامِي بِها البَنَانُ
كأَنَّمَا قَوَّمَها مِيزانُ *** فأَبْشِرُوا بالخِصْبِ يا صِبْيانُ
إِنْ لَمْ يَعُقْنِي الشُّؤْمُ والحِرْمَانُ
ثُمَّ خَرَجَ لَيْلًا، وكَمَنَ فِي قُتْرَةٍ عَلَى مَوَارِدِ حُمُرِ الوَحْشِ، فمَرَّ قَطِيعٌ من الوَحْشِ، فَرَمَى عَيْرًا مِنْهَا، فأَمْخَطَه السَّهْمُ، أَيْ أَنْفَذَه، وصَدَمَ الجَبَلَ، فأَوْرَى السَّهْمُ فِي الصَّوّانَةِ نارًا، فظَنَّ أَنَّه قَدْ أَخْطَأَ فقالَ
أَعُوذُ بالمُهَيْمِنِ الرَّحْمنِ *** مِنْ نَكدِ الجَدِّ مَعَ الحِرْمَانِ
ما لِي رَأَيْتُ السَّهْمَ في الصَّوّانِ *** يُورِي شَرارَ النّارِ كالعِقْيانِ
أَخْلَفَ ظَنِّي ورَجَا الصِّبْيَانِ
ثم وَرَدَت الحُمْرُ فرمَى ثانِيًا فكانَ كالَّذِي مَضَى مِنْ رَمْيِه، فقالَ:
أَعُوذُ بالرَّحْمنِ مِنْ شَرِّ القَدَرْ
لا بارَكَ الرَّحْمنُ في أُمِّ القُتَرْ *** أَأُمْغِطُ السَّهْمَ لإِرْهَاقِ الضَّرَرْ
أَمْ ذاكَ مِنْ سُوءِ احْتِيَالٍ ونَظَرْ *** أَمْ لَيْسَ يُغْنِي حَذَرٌ عِنْدَ قَدَرْ
ثُمَّ وَرَدَت الحُمُرُ، ورَمَى ثالِثًا، فكانَ كما مَضَى مِنْ رَمْيَهِ، فقال:
إِنِّي لشُؤُمِي وشَقَائِي ونَكَدْ *** قَدْ شَفَّ مِنِّي ما أَرَى حَرُّ الكَبِدْ
أَخْلَفَ ما أَرْجُو لِاهْلٍ ووَلَدْ
إِلى آخِرِهَا، وهو يَظُنُّ خَطَأَهُ قال:
أَبَعْدَ خَمْس قَدْ حَفِظْتُ عَدَّهَا *** أَحْمِلُ قَوْسِي وأُرِيدُ رَدَّهَا
أَخْزَى إِلهِي لِينَها وشَدَّها *** وِالله لا تَسْلَمُ عِنْدِي بَعْدَها
وِلا أُرَجِّي ما حَيِيتُ رِفْدَهَا
وخَرَجَ مِنْ قُتْرَتهِ فعَمَدَ إِلَى قَوْسِه فكَسَرَها عَلَى صَخْرَةٍ، ثم باتَ إِلى جانِبِها، فلَمّا أَصْبَحَ نَظَر، فإِذَا الحُمُرُ مُطَرَّحَةٌ حَوْلَه مُصَرَّعَةٌ، وإِذا أَسْهُمُه بالدَّمِ مُضَرَّجَةٌ، فنَدِمَ على كَسْرِ القَوْسِ فقَطَعَ إِبْهَامَه، وأَنْشَدَ:
نَدِمْتُ نَدَامَةً لَوْ أَنَّ نَفْسِي *** تُطَاوِعُنِي إِذًا لقَطَعْتُ خَمْسِي
ويُرْوَى: «لبَتَرْتُ خَمْسِي».
تَبَيَّنَ لِي سَفاهُ الرَّأْيِ مِنِّي *** لَعَمْرُ أَبِيكَ حِينَ كَسَرْتُ قَوْسِي
ويُرْوَى: «لعَمْرُ اللهِ»، ثمّ صارَ مَثَلًا لِكُلِّ نادِمٍ على فِعْلٍ يَفْعَلُه، وإِيّاهُ عَنَى الفَرَزْدَقُ بقَوْلهِ:
نَدِمْتُ نَدَامَةَ الكُسَعِيِّ لَمّا *** غَدَتْ مِنِّي مُطَلَّقَةً نَوارُ
وقالَ آخرُ:
نَدِمْتُ نَدَامَةَ الكُسَعِيِّ لَمَّا *** رَأَتْ عَيْنَاهُ ما فَعَلَتْ يَداهُ
وقالَ الحُطَيْئَةُ:
نَدِمْتُ نَدَامَةَ الكُسَعِيِّ لَمّا *** شَرَيْتُ رِضَى بَنِي سَهْمٍ برَغْمِ