سياقات العودة المحلية والدولية لأعمال محمد إقبال
منذ مطلع الألفية الثالثة، ونحن نعاين صدور مجموعة من الإصدارات والدراسات المخصصة لأعمال المفكر الهندي محمد إقبال (1877-1938)، وإقبال كما هو معلوم عند مؤرخي الأفكار، يُعتبر أحد ورثة حركة الإصلاح الهندية ابتداءً بأحمد خان، وشبلي النعماني، وأمير علي، إلى المعاصرين، نذكر منهم…
منذ مطلع الألفية الثالثة، ونحن نعاين صدور مجموعة من الإصدارات والدراسات المخصصة لأعمال المفكر الهندي محمد إقبال (1877-1938)، وإقبال كما هو معلوم عند مؤرخي الأفكار، يُعتبر أحد ورثة حركة الإصلاح الهندية ابتداءً بأحمد خان، وشبلي النعماني، وأمير علي، إلى المعاصرين، نذكر منهم غلام أحمد برويز، وفضل الرحمن، ووحيد الدين خان، وغيرهم، ومن فرط هذه الأعمال وهذه الفورة، نذكر، على سبيل المثال لا الحصر:
كتاب بعنوان “أن تكون مسلماً أصيلاً: للباحثة سيفكان أوزتورك، صدر في عام 2019 عن دار نشر روتليدج، ويشتغل على عرض قراءة كيركيغاردية (1813-1855) لفلسفة محمد إقبال عن الذاتية؛ خاصة الذاتية الإسلامية، رغم أن كيركيغارد يشير إلى الإسلام بصورة عرضية في مؤلفاته، بينما لا يشير إقبال إلى كيركيغارد في أي من أعماله، على الرغم من أنه كان على اتصال وثيق بالفكر الأوربي ودائم الإحالة في مؤلفاته إلى العديد من الفلاسفة الأوربيين والأمريكيين الرئيسيين. (صدرت قراءة في هذا الكتاب، أنجزها الباحث المصري بدر الدين مصطفى أحمد، ونشرت في موقع “مؤمنون” بتاريخ 27 دجنبر 2019).
يجب التذكير في هذا السياق الفلسفي الأوربي، أن محمد إقبال استفاد كثيراً من الفلسفة الأوربية في خدمة فلسفته وترسيخها دون أن يكون مقلدا أو تابعاً، بل كان يرى أن “الثقافة الأوربية في جانبها العقلي ليست إلا ازدهاراً لبعض الجوانب المهمة في ثقافة الإسلام”، والملاحظ أن الخلفية الدينية والصوفية لمحمد إقبال لم تمنعه من الاستشهاد بفلاسفة غربيين مثل هنري برغسون ونيتشه وكانط وديكارت وغيرهم كثير.
من جهته، ألف المفكر الفرنسي عبد النور بيدار كتابان عن محمد إقبال، الأول بعنوان “راهنية محمد إقبال” في غضون 2010، والثاني يتطرق فيه لتعامل الإسلام مع معضلة أفول الدين في الغرب، وصدر في نفس السنة، مع غلاف الكتاب يتضمن صورة محمد إقبال.
أما الباحث والمترجم المغربي فريد الزاهي، فقد صدر له مؤخراً عن دار “توبقال” المغربية، عملاً مترجماً لبشير ديان، بعنوان: “برغسون ما بعد الكولونيالي: الفلسفة الحيوية لدى ليبورلد سيدار سنغور ومحمد إقبال”.
كما ترجم الباحث الموريتاني السيد ولد أباه، أحد أعمال سليمان بشير ديان، تحت عنوان “الإسلام والمجتمع المفتوح، الإخلاص والحركة في فكر محمد إقبال”، وصدر عن دار جداول، في فبراير 2011، والعمل في الواقع، مرده محادثة بين هنري برغسون (1859-1941)، ومحمد إقبال، حيث توقف ديان عند عدة قواسم مشتركة بين الرجلين، ومنها اشتغالهما على سؤال الأخلاق.
من بين الإصدارات أيضاً، نذكر كتاب “محمد إقبال وتجديد التفكير الديني في الإسلام” للباحث السعودي زكي الميلاد، وصدر في عام 2008، ويرى المؤلف أن محاولة إقبال في كتابه “تجديد التفكير الديني في الإسلام” تُعد واحدة من أهم المحاولات التي جاءت في سياق تجديد الفكر الإسلامي، لكنها المحاولة التي لم تتمم في العالم العربي والإسلامي، ولم يؤسس عليها الفكر الإسلامي المعاصر تراكماته المعرفية في مجال اهتمامه بقضية تجديد الفكر الإسلامي، معتبراً أن هذا الانقطاع عن محاولة إقبال على أهميتها الفائقة، يُعدُّ من أشد مظاهر الأزمة المعرفية في الفكر الإسلامي المعاصر. (صدر الكتاب عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ضمن سلسلة أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي).
يجب التنويه هنا بلحظة تأليف “تجديد التفكير الديني في الإسلام”، وهي في الواقع، تجميع لمحاضراته الست التي ألقاها باللغة الإنجليزية ما بين سنتي 1928-1929، تلبية لطلب من الجمعية الإسلامية في مدراس، وأكملها في مدينتي حيدر آباد وعليكرة بالهند، قبل أن تصدر لاحقاً في كتاب صدر بالإنجليزية مطلع الثلاثينيات، تحت عنوان “تجديد التفكير الديني في الإسلام”، حسب ترجمته العربية، من باب “بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناءً جديداً، آخذاً بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة”.
وأخيراً وليس آخراً، كتاب حسن حنفي بعنوان “محمد إقبال: فيلسوف الذاتية”، والصادر عن دار المدار الإسلامي في عام 2009، ونحسبُ أن هذا العمل يوجد ضمن أهم الأعمال العربية التي اشتغلت على التعريف بما قد نصطلح عليه “موسوعية إقبال”، الموزعة على ثنائية الأعمال الشعرية والنثرية، حيث يعرض حنقي فلسفة إقبال الذاتية، بين الذات الفرد، والذات المشتركة أي الأُمة، وقد تضمن العمل عدة فصول تدور في فلك الثنائيات التالية: جدل الذات: إثباتها (التأويل) ضِدَّ نفيها؛ الشكوى والأنين: الشكوى والجواب، والأنين والحنين؛ السقوط والنهوض: أسباب السقوط وعوامل النهوض؛ الذات المضادة: الغرب والتغريب، والغرب والشرق؛ التراث والتجديد: التراث الفلسفي القديم، وتجديد التفكير الديني؛ وأخيراً الدولة والأُمة: نظام الدولة، وحال الأمة.
وموازاة مع الإصدارات، هناك مجموعة من الدراسات والمقالات، نذكر منها قراءة الباحث المغربي عبد اللطيف الخمسي في أحد أهم أعمال محمد إقبال، والإحالة على كتابه “تجديد التفكير الديني في الإسلام”، وصدرت القراءة تحت عنوان “فلسفة الدين في الفلسفة الإسلامية المعاصرة : محمد إقبال أنموذجاً”، في موقع “مؤمنون” بتاريخ 3 أبريل 2015، وينطلق من أرضية نظرية مفادها أن التفكير الجدّي في الوضعية الكونية للإسلام، في الشروط المعاصرة، يقتضي تناول مسألة أساسية، وهي إمكانية بناء خطاب فلسفي إسلامي تنويري راهني، يقدم منظوراً للإصلاح الديني من جهة، وبناء حداثة دينية تعطي للإسلام مقوماته الفكرية والعقلانية والروحية (القيمة) من جهة أخرى. ولكن كلّ هذا لا ينفصل عن التساؤل عن علاقة الفكر الإسلامي المعاصر، ليس فقط بالتراث الفلسفي الإسلامي (الكلامي والصوفي والبرهاني)، بل بمجال أساسي معاصر ثور العلاقة مع الدين وهو مجال فلسفة الدين. وهو ما يعني التساؤل حول مظاهرها وإمكاناتها وحضورها، في الاجتهادات الفكرية الإسلامية في أفق تلمس الأسئلة والقضايا الكبرى التي تندرج ضمن سياق تجديد العقل الديني الإسلامي. من هنا تحضرنا مساهمة المفكر والفيلسوف الهندي محمد إقبال.
من الدراسات أيضاً، تلك التي حرّرها الباحث التونسي احميدة النيفر، بعنوان محمد إقبال و”الإنسِيَّة” القرآنية”، وصدرت في موقع “مؤمنون” بتاريخ 4 يونيو 2015، وانطلق من إشارة دالة، مفادها أن عموم فكر محمد إقبال ظلّ مهجوراً في الحراك العربي الإسلامي الحديث لعقود متوالية، خلافاً لما أنتجه من شعر، وكان أشد ما لقيه هذا الفكر من إعراض متعيناً في مقاربات إقبال القرآنية، بل يذهب النيفر إلى التعامل مع محاضرات إقبال الشهيرة في ثلاثينات القرن الماضي، ضمن مشروع تجديد الفكر الإسلامي المؤسِّسَ لفهم معاصر للدين، جعلته يحقق أول خطوة لإرساء تطوّر نوعيّ في فكر المسلمين الديني الحديث.
هناك أيضاً دراسة بعنوان “رهانات التفكير الديني وراهنيّة محمّد إقبال”، لمحمد التهامي الحراق، نشرت في موقع “مؤمنون” بتاريخ 10 يونيو 2019، وهي في الأصل، ورقة بحثيّة قُدّمت ضمن أشغال الندوة الدوليّة التي نظّمها “مختبر الإنسان والفكر وحوار الأديان”، بالتعاون مع “اتحاد جامعات العالم الإسلامي” و”الجامعة الإسلاميّة العالميّة بإسلام آباد” و”معهد إقبال الدولي للبحوث والحوار؛ وذلك بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالرباط ـ جامعة محمّد الخامس- يوم الخميس 27 دجنبر 2018، وقد صدرت في أحدث أعمال الحراق، والإحالة على كتابه “في الجمالية العرفانية: من أجل أفق إنسي روحاني في الإسلام” (صدر العمل في فبراير 2020، وجاء في 511 صفحة)
هذا دون الحديث عن تفاعل العديد من المستشرقين، وخاصة المدرسة الألمانية، وفي مقدمتهم أنّا ماري شيمل التي ترجمت بعض أعماله، أو رينولد آلين نيكلسون، الذي يُحسبُ له الاشتغال على ترجمة أعمال محمد إقبال، حتى إنه يُعد أحد كبار المستشرقين الإنجليز المتخصصين في مجال التصوف الإسلامي، ولذلك يُعتبر عند النقاد، أول من أقرّ في أوربا بأهمية صاحب “تجديد التفكير الديني في الإسلام”، وهو القائل أن “إقبال جاء كرسول إن لم يكن لعصرِه فلسائر العصور”.
وعلى هامش الترجمة التي أنجزتها أنّا ماري شيمل، نقرأ مقالة للشاعر الألماني هرمان هيسه، نشرت في افتتاحية له نشرتها مجلة “فکر وفن” الألمانية، حيث نقرأ لهيسه: إن “محمد إقبال ينتمي إلى ثلاثة أحياز روحية، وهذه الأحياز الروحية الثلاثة هي منابع آثاره العظيمة، وهي حيز القارة الهندية، وحیز العالم الإسلامي”، مضيفاً أن “ينبوع قوة إقبال يقع داخل مضمار آخر هو التدين والإيمان”. (سبق لأنّا ماري شيمل أن ألقت محاضرة باللغة الإنجليزية يوم 11 نوفمبر1996، في قاعة المحاضرات، بمتحف فكتوريا وألبرت الملكي، بالعاصمة البريطانية، تزامناً مع ذكرى ميلاد إقبال، وطُبعت في مؤسسة الفرقان بلندن باللغتين العربية والإنجليزية 1996)
هذا غيض من فيض عودة عربية وإسلامية لأعمال محمد إقبال، ونحن نزعم أن هذه العودة لا يمكن أن تكون صدفة أو عابرة، مادامت تهم العديد من الأقلام البحثية الرصينة، ومن عدة مرجعيات. ونزعم أيضاً أنه لا يمكن اختزال أسباب هذه العودة في الخصاص الكبير الذي نعاني منه هنا وهناك، في أعمال “فلسفة الدين”، بحكم تميز محمد إقبال في هذا المضمار، فهذا جزء من مجموعة أسباب، منها فشل الخطاب الإيديولوجي في الساحة (الخطاب القومي، مشروع “أسلمة المعرفة”، فالأحرى خطاب الإيديولوجيات الدينية والمادية.. إلخ) وأسباب أخرى.
هذه العودة أشبه بنداء محلي وإقليمي ودولي، يروم استعادة الأفق الإصلاحي لمحمد إقبال، فهماً وتبصراً من ناحية، وتواصلاً وتجاوزاً من ناحية ثانية، مع الأخذ بعين الاعتبار القاعدة النقدية المالكية التي أشرنا إليها مراراً، أي العمل بقاعدة “كلٌ يُؤخذُ بكلامه ويُرد”، وهذا ما يُميز مثلاً، كتاب حسن حنفي سالف الذكر حول مشروع محمد إقبال، لأن تضمن في صفحاته الأخيرة مجموعة من الاعتراضات النقدية.
تحدثنا عن متابعة دولية، لأن أعمال إقبال حظيت باعتراف العديد من الأقلام الفكرية في الساحة هناك، ويكفي هنا التذكير بالتكريم أو المتابعة البحثية التي حظيت بها أعماله في الساحة الفكرية والإعلامية الألمانية، بحيث لم يسبق لمفكر مسلم أن حظي باعتراف الألمان مثل ما جرى مع محمد إقبال في القرن العشرين، أما الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور، فقد ذهب إلى الإشارة بقدرة إقبال على إقامة تبادل خلاق بين المفكرين والنصوص التي قد تبدو غير منسجمة فيما بينها، ولكن الأمر يختلف مع إقبال، من قبيل الجمع بين أعمال نيتشه وبيرغسون، أو الحلاج والرومي، وأسماء أخرى.
ليست صدفة إذن هذه العودة، أقلها إشارة لأخذ مسافة من التردي المعرفي الذي ابتلي به المغرب والمنطقة منذ عقود مضت، لعلها تكون بادرة محفزة على مزيد كد معرفي، نافع للأوطان والأمة والإنسانية.