النقد الفلسفي بين تشكل الذات وتأزم الواقع
بادئ ذي بدء يجدر بنا الإشارة إلى وجود وشائج قربى و صلات قوية بين النقد و الفلسفة، ولقد أثمرت تلك الصلات عن ثمرة يانعة تسمى النقد الفلسفي، و أيضا فلسفة النقد.
بادئ ذي بدء يجدر بنا الإشارة إلى وجود وشائج قربى و صلات قوية بين النقد و الفلسفة، ولقد أثمرت تلك الصلات عن ثمرة يانعة تسمى النقد الفلسفي، و أيضا فلسفة النقد. ونستطيع أن نورد أبسط تعريف للنقد بأنه تمييز الجيد من ألردي و الحسن من القبيح، وهذا ما يطلق عليه النقد البناء ، فالنقد البناء هو بيان الأخطاء و محاولة تقويمها.
وفي هذا السياق نلفت الانتباه إلى أهمية النقد في حياة الأفراد و المجتمعات،فالإنسان من طبيعته الخطأ وتنبيهه للخطأ هو نصح له ، وعن طريق النقد البناء يتم تصحيح الأخطاء حيث أن غياب النقد يعني تراكم الأخطاء.
وبناء على ذلك يمثل النقد أداة سلوكية و توجيهية يتم تطويعها من أجل أهداف معينة، وقد يكون النقد خارجيًا و قد يكون ذاتيًا، فالنقد الذاتي هو النقد الذي يوجهه الإنسان لنفسه ولذاته ،من أجل تقويمها و تشكيلها على أفضل صورة، ومن هنا يسهم في بناء الذات من خلال تذكيرها بالمثل و القيم و المبادئ التي ترفع من شأنها ،وتعلي من قيمتها بين الناس، و الثمرة من ذلك هو تغيير الحالة التي يكون عليها الفرد و المجتمع،بحيث يلمس الإنسان أثار هذا التغيير رغدًا في العيش و سهولة في الحياة.
أما النقد الخارجي فهو عملية تقويم من المجتمع للفرد و مواقفه و سلوكه. هذا عن أهمية النقد بوجه عام، أما النقد الفلسفي الذي يمثل علاقة الارتباط بين النقد و الفلسفة ، فأننا نجد هذا النقد الفلسفي يتطلع إلى إحداث فارق معرفي و مجتمعي في الواقع الذي نعيشه ، فهو أداة فعالة في إحداث تغيير للواقع بكل صوره و أشكاله، ومحاولة الوصول إلى أفضل صورة لهذا المجتمع، فهو يعمل على تجاوز الواقع المتأزم، ليس هذا فحسب بل يسهم في وضع حلول لمشكلات هذا الواقع.
ويجب أن نلفت الانتباه إلى أن النقد الفلسفي يستمد جدارته و يكتسب وظيفته و يستحق تسميته كلما انتزع لذاته فضاءً مناسبًا في الإنتاج الفكري و النظري و الثقافي. فالنقد الفلسفي مكون أساسي لا غنى عنه في إثراء الحياة الاجتماعية و الثقافية في المجتمع. وفي هذا السياق يجب أن نشير إلى ارتباط النقد الفلسفي بأسئلة الوجود و القيم و المعرفة ، فهو يمثل وعي بالمسؤولية التاريخية التي يستشعرها الفيلسوف في لحظات الأزمة ، وإيقاف للإنسان المعاصر على أوهامه ،قصد حمله على الانفلات منها، بالمراجعة على قلق السؤال و شغب الفكر.
وللنقد الفلسفي على وجه الخصوص سمات منها التبرم مما هو بديهي و مراجعة شاملة لكل ما يقدم إلينا باسم الحقيقة و اليقين. لذا يمثل النقد حركة الفكر و المجتمع، وشرط حركة التاريخ و حامل لواء المعارضة، و التشكك في الأوضاع القائمة في المعرفة و السلوك.
وإذا أردنا تأصيل و تجذير النقد الفلسفي و الغوص في أعماق الفكر الإنساني، نرى أنه قديم قدم هذا الفكر الإنساني ، و أن معظم الحضارات الإنسانية عرفته بصورة أو بآخري، فإذا رجعنا إلى الفلسفة اليونانية نجد أن أرسطو نقد أفلاطون في نظريته عن المثل ، و استبدل نظرية المثل برؤية الواقع ، وعالم الخيال و الشعر بالعالم الحسي. وكذلك نقد أوغسطين في العصور الوسطى شك الأكاديميين من أجل إثبات الحقيقة و المعرفة. وبدأ النقد الفلسفي يأخذ مسارًا جديدًا عند كانط ، و تحول النقد إلى فلسفة نقدية عنده، من أجل بيان إمكانية المعرفة قبل إصدار الأحكام و تحديد ما يمكن معرفته قبل التوجه إلى موضوع المعرفة.
ومن هنا نشير إلى أنه بدون نقد المعرفة الذي وضعه كانط لا تكون للنظرية النقدية أهمية. فالنقد الكانطي هو محاولة للتوفيق بين التجريبي و العقلي ، لذا ينطلق هذا النقد من الصعوبات التي تواجهها عملية الفهم، أي القدرة على إطلاق أحكام، وبهذا النقد أحدث كانط قطيعة مع الفلسفات التي سبقته ، وفجر بذلك ثورة فلسفية لا تقل أهمية و خطورة عن الثورات السياسية.
و استمر تطور النقد الفلسفي و أخذ أبعادا جديدة بعد كانط ، وحاول أن يركز بصورة كبيرة علي استخدام المنهج النقدي في جميع مجالات الحياة، وفي هذا السياق لا نستطيع أن نغفل أو نغض الطرف عن استخدام المنهج النقدي عند مدرسة فرانكفورت ، و الذي أصبح علمًا على تلك المدرسة ، ولقد ظهر مصطلح النظرية النقدية و استخدام النقد الفلسفي من أجل محاولة نقد الأوضاع الاجتماعية و الثقافية و السياسية السائدة علي يد هوركهايمرHorkheimer)) في دراسة له بعنوان(النظرية التقليدية و النظرية النقدية) أوضح من خلاله أهمية النظرية النقدية و التي تؤكد علي الصبغة النقدية ، و تجعل الإنسان صانعًا لظروفه التاريخية بأسلوب لا يخلو من النقد المستمر ، من هنا فأن النظرية النقدية تحافظ على التراث الفلسفي برمته.
و يستمر النقد الفلسفي في القيام بدوره الحيوي و المحوري في تاريخ الفكر الإنساني ، و بدأ يأخذ منعطفًا جديدًا مع هربرت ماركيوز و خاصة في كتابه (الإنسان ذو البعد الواحد) و الذي من خلاله يؤكد على أن الفلسفة يجب أن تكون لها مهمة نقدية ، ويجب أن تعود إلى جوهرها الأصيل و منبعها الصافي من خلال القيام بتلك الوظيفة النقدية. فالفلسفة تمثل لحظة نقدية للواقع الإنساني، فنقد ما هو كائن يؤسس البعد الأكثر عمقًا للسؤال الفلسفي. و استمر النقد الفلسفي يقوم بدوره المحوري في المجتمع و برز بصورة كبيرة على يد هيجل الفيلسوف الألماني الذي استخدم الجدل والذي يمثل الطابع النقدي الخصب ، فقد سعى هيجل من خلال هذا الجدل السلبي لبلوغ الحقيقة ، و اعتبار السلب قوة خلاقة في الفكر و الوجود.
و السؤال الذي يطرح نفسه بقوة ماذا لو أردنا أن نوظف هذا النقد الفلسفي في واقعنا العربي المعاصر ، و الذي يمثل واقع معقد و متشابك و متأزم؟ كيف يمكن توظيف هذا النقد الفلسفي في تشخيص الداءات و حل المشكلات؟ الإجابة على تلك الأسئلة أنه يجب أن تبدأ أي نهضة عربية بالنقد ، ومحاولة استخدام المنهج النقدي الفلسفي في مراجعة تراثنا ، ماذا يجب أن نأخذ وماذا يجب أن نترك، محاولة انتقاء ما يفيدنا في واقعنا المعاصر، و لن يتم ذلك إلا باستخدام النقد الفلسفي الذي يمثل عملية غربلة وتنقية لما يجب أن نأخذه.
استخدام النقد الفلسفي هنا يساعد على معرفتنا بأنفسنا و معرفتنا بالآخرين، و كيفية التعامل مع أنفسنا و الآخرين، يجب وضع كل المعارف تحت منظار النقد و منظار الفحص ، لا توجد معارف فوق النقد . استخدام منهج النقد الفلسفي يساعد على التعامل أيضا مع كل وافد حضاري من منطق عدم تقديسه و تقبله بدون أي مراجعه، من هنا يساعد هذا المنهج في نقد الذات و نقد التراث و نقد كل وافد ثقافي. و بناء على ذلك يتضح أهمية هذا المنهج في إحداث تطور الأفراد و المجتمعات ، و تقويم السلوكيات .