تأثيرالأوراق النقدية في أول ظهور للمطبعة.. حضارة المملكة الزنكيّة قبل 9 قرون المجهولة
د. محمد الزّكري
أمام التحديات الهائلة تبنت المملكة الزنكية في زمن السلطان نور الدين زنكي (1118م – 1174م) رؤية
طموحة كان أهمها تشكيل هوية للدولة تسمح بالتعايش مع الإسماعليين من بقايا الدولة الحمدانية ومع
الإسماعليين الفاطميين، وكان إعادة تنظيم القوات العسكرية أمام التطور الهائل للقوات الأوربية أمر ضروري
وذلك من خلال تطوير رتبة الفرسان الزنكييون لمجاراة فرسان القلاع الأوروبين.
كل ذلك أدى إلى تغيرات هائلة في طرق تنظيم العسكر ومؤسساته ومراكز إعداد وتأهيل كوادره، مع إعادة تركيبة المجتمع وثقافته وعلاقاته
البينيـّة والخارجية. إستراتجيات لا تتحقق إلا بتمويل مادي هائل. فحصل المحتوم من تعرّض خزانة الدولة الزنكية إلى نقص مالي شديد.
في كنف هذا التحدي المركب كيف واجهت دمشق شبح الإفلاس؟
تم لها ذلك بتأسيس مطبعة لطباعة النقود الورقية. وكانت آلية عمل التمويل من خلال طرح خزينة المملكة الزنكية الأوراق إلى السوق وتقايضه مع تجار الشام مقابل ما يملكون من ذهب وفضة.
العبقرية الدمشقية طورت نظام الطباعة الآلي المعتمد على قوالب خشبية، قوالب محفورة بدقة متناهية ومع كبسها بعد مسحها بالحبر على قطع الورق أنتج بيت المال (البنك المركزي) النقود الورقية.
طباعة آلية تجاوزت ولأول مرة تفاوت الإنتاج اليدوي وضمنت دقة وتطابق كل ورقة
نقدية مع مثيلتها مع سرعة الإنتاج للأعداد كبير (1) المطلوبة من الأوراق. فطبع أهل دمشق نقود ورقية تسمى
“القراطيس السود” (المطبعة تطبع بلون واحد. اللون الأسود) أو “العادلية” (2) وذلك في زمن السلطان نور الدين زنكي (1118م – 1174م).
الأمور لم تكن بهذه السهولة، فلكي ينجح هذا المشروع كان على دمشق ابتداع نظام مصرفي قائم على دعائم
فكرية مالية يقبله القطاع التجاري ويتفق عليه الجمهور لكي يتداولونه فيما بينهم. عمدت المملكة الزنكية على
الترويج للأوراق على أنها عملة ورقية شرعية مدعومة من المملكة لكي تستخدم في عملية البيع والشراء بدل من
القروش المعدنية المصنوعة من الذهب والفضة. بعد ذلك قامت الإمارة بمقايضة الأوراق مع تجار الشام مقابل
ما يملكون من ذهب وفضة، ومع توفر الذهب والفضة استطاعت دمشق من الارتباط مجددا بالتاريخ ومن التفاعل مجددا مع تحديات الأحداث. كانت لحظة مفصلية تمثل تحولا نوعيا في هوية العربي.
لحظة قدمت إجابات وحلول لمشاكل العالم العربي. لحظة أنشغل فيها الوعي العربي بميلاد الآلة، بمطبعة طبعت عملات ورقية تداولها ولامس منتجها الورقي الطفل، الشاب، المرأة، الرجل والمسن وتحدث عنها الجميع من حضر وبدو، القاصي والداني. استشعر العربي بأن الآلة أعانت عبوره من ثقافة نظام مصرفي تقليدي إلى ثقافة غير مسبوقة تعتمد نظام مالي جديد. خطاب انبثاق الأوراق النقدية أشعر العربي أن هويته مرتبطة بالتغيير وأنه إنسان له حضور فاعل في مجال المعارف والرقي والتقدم.
كل فعل تغييري يولـّد حزمة من ردود أفعال: عند دراسة تجربة العرب المبكرة للتعامل مع الآلة سيتضح لنا عدم بروز أي نوع من الهوة بين العلماء ورجال الدين. ولأن العربي حينها هو الذي اخترع حداثته ذاتيا لم يعاني
آبائنا من خطاب الأنا العربي الذي يقلد الآخر كم هو أغلب خطابات عصرنا، بدليل أن الكتب القديمة لم ترصد أي خطاب تطرق إلى صدام بين قيم الأصالة وقيم الحداثة. ولكنها ذكرت خطابات في جوهرها عملت على صياغة الوعي العربي بأن الآلة، كأداة لطباعة العملات الورقية،
قد سببت تضخم مالي أضعف قدرته على شراء متطلباته اليومية. تزعّم هذا الخطاب طبقة التجار نتيجة تقلص رأسمالهم كثيرا بسبب تراجع قيمة “القراطيس السود”. وعلى ضوء هذه الخلفية أخذت مَرْإيـّاتـهم تتبلور في صيغ مطالب لإصلاح الوضع المالي
لا على أسس خطاب ديني بل على أساس خطاب قائم على اعتبارات اقتصادية.
قررت المملكة الزنكية الدخول في حوار مع التجار عسى أن تتوصل إلى تسوية تضمن مصالح المملكة وترضي التجار. فرصد المقدسي (3) انعقاد مؤتمر بين التجار والسلطان نور الدين، دارت محاوره حول تراجع قيمة
عملة “القراطيس” أمام قطع الدنانير المعدنية، وبسبب غياب (فكرة) مؤسسة مالية تنظم وتثبت سعر “القراطيس” أمام الذهب والفضة في سوق دمشق، طلب التجار من السلطان إلغاء التعامل بـالقراطيس.
كان رد السلطان رفض مطالبهم حيث أن إلغاء الأوراق النقدية سيضعف المملكة ماليا.
انقشاع هالة الانبهار أم توقف الإبداع: النظام المالي الجديد لم يعالج قضية منع تزوير الأوراق النقدية، لم
يطور قانون يسمح بإبدال الأوراق التالفة بغيرها، ولم يتوصل إلى اتفاقية يتم بموجبها صرف العملات الورقية
في المدن الشامية الأخرى ومن تداولها في أسواق الدول المجاورة للشام.
في مرحلة توقف فيها تدفق الإبداع انتقل تشكل وعي العربي الدمشقي في واقع ما بعد الآلة، في واقع
معايشة منتجات المطبعة، في واقع متأثر بالنظام المالي الجديد، انتقل إلى الشكوى من الآلة ومن تراجع
مستوى حياته الاقتصادي والاجتماعي مقارنة بما كانت عليه حياته في مرحلة ما قبل الآلة.
لم تصمد الآلة أمام خطاب الظلم-العدل: مع استمرار خطاب تظلم التجار تحولت القضية المالية إلى قضية
دينية. كيف حصل هذا؟ حصل هذا عندما أبدى الشيخ ابن اليُونِينِي (نسبة إلى “يونين” قرية إلى الشمال من بعلبك) تخوفه من الظلم الذي يقع على الناس بجراء تقلب قيمة عملة “القراطيس” (4). في هذه المرحلة بدأ
الخطاب الديني يأخذ موقف من النظام المصرفي الجديد وبطريقة غير مباشرة من المطبعة أي من الآلة. ولأن
القضية برمتها أخذت بتوجيه إصبع اللوم نحو ساسة المملكة الزنكية (في تلك المرحلة أنتقل الحكم إلى الفرع
الأيوبي وأصبحت تعرف بالمملكة الأيوبية) حيث أن المشروع مشروع الدولة أخذ الأمر برمته ينتقل من خانة
اختلاف في انتقاء حلول إلى أمر آخر وخطير جدا في نفس الوقت. فكم ذكرنا سابقا أن قضية استقرار المملكة الزنكية من أساسيات الرؤية الزنكية والتي اعتمدت إستراتجيات نشر العدل و التنمية الاقتصادية
لأن السياسة في الإسلام كما ذكر أبو البقاء أيوب الكفوي في “الكليات” تعني ” تدبير المعاش مع العموم على
سنن العدل والإستقامة” (5). فقد آمنت الدولة الزنكية بأن الهزيمة تبدأ من الداخل وعليه فهي لا تجامل في أي أمر يزعزع قضية الاستقرار. علينا التوقف عند تشكل وعي العربي الدمشقي. فقد أخذ وعيه يتصور الآلة،
المطبعة، العملات كأدوات ظلم. فخطاب العدل-الظلم خطاب عظيم له تأثيره ومداه في زمن الجهاد الإسلامي.
وكما ذكرنا فإن الرؤية الزنكية محصنة بقيم ترفض الوسائل التي تبرير الغايات المنافية للقيم. فرضخ سلاطين
دمشق لمخاوف الشيخ اليُونِينِي، وهو شخصية موقرة عندهم (6)، وألغيت العملة.
لم تستمر الآلة كمشروع دولة: ساهم دعم المملكة الزنكية للطباعة الآلية إلى توسيع نطاق حدث الآلة وتمكينه من
الدخول في كل بيت وفرد في المجتمع الدمشقي. ولكن مباشرة بعد إلغاء دمشق “القراطيس السود” أو
“العادلية” ألغيت معه المطبعة أي الآلة. ولم تناط إلى المطبعة مهمة جديدة مثل أن تطبع الكتب. فبفقدان وظيفتها الوحيدة (طباعة الأوراق النقدية) أنهت الدولة رعايتها للآلة. في مثل هذا الغياب تحولت الآلة إلى
مشروع فردي. وبغياب الدعم تضاءل حضورها الاجتماعي. ما يدعم ضعف دور الآلة في العالم الإسلامي هو عثور علماء الآثار على أعداد قليلة فقط من نصوص لحوالي خمسين كتابا تم طباعتها بواسطة نظام الطباعة
بالقوالب الخشبية. وآخر ما عثر عليه هو كتاب ديني مطبوع يعود إلى عام 1350م وقد عثر عليه قرب مدينة
“الفيوم” المصرية (7). وبعد ذلك اختفت تماما.
هوامش:
باعتلاء عماد الدين زنكي سدة الحكم في الموصل قامت الدولة الزنكية وذلك في عام 1127م، كما ورد في “
تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام” تأليف د. محمد سهيل طقوش. ولكن في هذه المقالة سنعتبر حقبة
نور الدين زنكي هي مرحلة التبدل نوعي للمملكة.
1) للمزيد ارجع إلى كتاب ” ندوة تاريخ الطباعة العربية حتى انتهاء القرن التاسع عشر” من نشر مركز جمعة
الماجد للثقافة والتراث – دبي.
2) ذكر إبن كثير في البداية والنهاية، ج13 “تعامل أهل دمشق في القراطيس السود العادليـّة ثم بطلت بعد ذلك ودفنت”.
3) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية. تأليف أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الشافعي.
4) راجع سير أعلام النبلاء للذهبي.
5) الكفوي، “الكليات”, تحقيق عدنان درويش.
6) راجع مصدر رقم (4).
7) للمزيد اقرأ ”الكتاب العربي المطبوع: من الجذور إلى مطبعة بولاق”. تأليف د. خالد عزب و أحمد منصور.