هل يمكن أن تساهم ألمانيا بإرشاد السّلفية الى جذورها التّصوّفيّة؟
د . محمد الزّكري
أنثروبولوجي عربي
قابلت المفكرة الألمانية آن ماري شيمل في بداية عام ٢٠٠٠ في مملكة البحرين. كنت مسؤولا أن أقضّي معها يوما ثقافيا لاطلاعها على تاريخ وحضارة البحرين العريقة. بعد ذلك تناولنا طعام الغداء في منزل والدتي رحمهما الله تعالى.
في بيتنا دار حديث، منه أنها نصحتني بدراسة التصوف وقالت لي: أن أوروبا حاضنة لكثير من المسلمين الذين ينتمون الى مشارب متنوعة. ومن أن تلاقح حضاري بين أوروبا والإسلام سيساهم بنقل الإسلام نحو عولمة متعددة متعايشة مميزة ومفيدة.
هذه ألمانيا أقابل كثيرا من المسلمين العرب. كما أقرأ ما يكتب عنهم. أجدني أشاهد كثيرا منهم في أتون ضباب فكري جلبوا أغلب ملابساته معهم. بعض تلك الأفكار تحمل صبغة الخطاب السلفي المتأزم.
فالسّلفية، في وجهة نظري، سَلفيّات منها ما هو تعايشي ومنها ما هو تنافري، متأزم وإفنائي ذو خيال ديني خاطئ يوهم معتنقيه أن مهمتهم في الأرض أن يطهروا الأرض من البدعة.
خطاب علق بشراك تأويلات تقسم البشرية إلى ثنائية كافر ومسلم، ومن ثم تصنف المسلم من خلال ثنائية مبتدع ضال أو مهتدي متبع لطريق السنة والجماعة.
أجد اليوم الشباب الذين يحبون التعرف على إسلام التعايشي غير الذي يروج له السلفيون الإفنائيون.
إنهم يبحثون عن فهم إسلامي يسمح لهم بأن يكونوا مسلمين، ويسمح لهم بالاندماج والتعايش والتكامل في المجتمع مع إخوان التراب من الألمان وبقية المهاجرين.
في ألمانيا تحاول اكثر من جهة خصوصا تلك المراكز الاسلامية المعنية بتخريج شريحة من الأئمة والخطباء معالجة التطرف وذلك باجتثاثه من الخطاب الاسلامي.
فما دمنا في أوروبا حيث يعلو منطق الحوار والنقاش فوق كل ضجيج يكون سؤالنا:
هل يمكن أن تساهم أوروبا بإرشاد السّلفية الى جذورها التّصوّفيّة؟
للإجابة على هذا السؤال سأقوم بإعادة قراءة السّلفيّات المُغَيّبات. أريد أن أجادل ضد تلك الفكرة التي تصور قطيعة بين التصوف الذوقي والسلفية من خلال تبيان ما بينهما من وصل واتصال.
فمن السلفيين الذين تتجاهلهم الأذرع الإعلامية الدينية هو أبو الفرج بن الجوزي القرشي البغدادي. وهو فقيه حنبلي محدث ومؤرخ ومتكلم (510هـ – 597 هـ). ما يهمنا أن أبو الفرج بن الجوزي هو أول سلفي كتب عن شخصية متصوفة وعن التصوف في كتاب بعنوان: درر الجواهر من كلام الشيخ عبد القادر الجيلاني.
موضوع الكتاب هو الشيخ عبد القادر الجيلاني أو الكيلاني (470 هـ – 561 هـ). وهو متصوف مشهور جدا وتنسب الطريقة الصوفية المشهورة بالقادرية إليه. بهذا العمل الكتابي نسج السلفي الحنبلي أبو الفرج بن الجوزي مبكرا مجدّلة عقدت بين ضفيرة سلفية مع أخرى متصوفة بحيث لا يمكن فلّها. وكان هذا الكتاب محاولة جادة من ابن الجوزي في مواجه تشكل السلفية الإفنائية.
ففي تقديري توجس ابن الجوزي خيفة من حجم العبث الفكري الإفنائي الذي أطلقه أبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري البغدادي (233 – 329 هـ) بسلوكياته وكتاباته المتأزمة باسم الحنبلية والسلفية.
فالبربهاري هو المؤسس والمنظر لتلك السلفية المتأزمة التي قسمت البشرية وصنفت الثنائيات الإفنائية فربط المسلم الذي لا يطابقه بالبدعة وسماه منحرف وربط من يطابقه ب بالرشد والهداية وباتباعه لأهل السنة والجماعة.
يجد الباحث أن ابن الجوزي سلفي متعايش مع المسلم المتصوف بشكل جميل. وسيستنتج الباحث أن ابن الجوزي نجى من إخفاق البربهاري في استيعاب المشيئة القرآنية المطلقة والواردة في سورة الكهف والتي تجعل مشيئة الكفر أو الإيمان بيد الإنسان والتي تؤكد أنه لا توجد عقوبة دنيوية على اختيار الكفر/البدعة بل كل العقوبات أخروية يجريها الرب عز وجل بحق الظالمين بدون مساعدة من أي إنسان لا في الدنيا ولا في الآخرة: ” وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)”.
هكذا لم يفكر ابن الجوزي بمعاقبة المبتدع فقهيا في حين أن البربهاري اطلق عنان فقهه لإقصاء الآخر المختلف ثقافيا ومجتمعيا وجماعتيا ودينيا.
أنموذج البربهاري – ابن الجوزي
لم يستطع لا الشيخ ابن تيمية (661 هـ – 728هـ) ولا زميله الشيخ ابن قيم الجوزية (691هـ – 751هـ) من حسم موقفهما إما بالانضمام إلى سلفية ابن الجوزي الناعمة والمتصوفة أو بالانظمام إلى سلفية البربهاري الصلبة والإفنائية المتأزمة.
فقررا مسك العصا من الوسط. فتجد في كتاباتهما إرث ابن الجوزي (السلفي – المتصوف) المتعايش مع الآخر بصور جميلة وتجد في كتاباتهما إرث البربهاري (السلفي المتأزم) الذي يريد إصلاح الضمائر بالعصى من خلال مجموعة فتاوي متشنجة لا ترتضي للإنسان من ممارسة مشيئته التي كفلها القرآن له.
تجد عند ابن تيمية-ابن القيم من إرث ابن الجوزي ما هو واضح جدا. فتارة تجد أن ابن تيمية يسهب في الكتابة عن مدح متصوفة الحنابلة الثلاثة: الشيخ عبد القادر الجيلاني، وعن الجنيد، وعن إبراهيم بن أدهم. كما تجد ابن القيم يختصر كتاب تصوفي باسم “مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين”، وفي ذات الأثناء تقرأ بين نصوصهما تعابير الإقصاء وزندقة المخالف وبل تكفيره اقتداء بالبربهاري.
فشطحات ابن تيمية-ابن القيم المسهبة في التأزم وتارة المسهبة في النعومة لهما مرجعيتهما. لذلك أعتقد أن الأجواء الأوروبية توفر لنا ظروف إعادة اكتشاف تصوّفيّات السلفي – المتصوف أبو الفرج بن الجوزي، ومن ثم التعرف على تأثيره على كل من ابن تيمية-ابن القيم، بعده نقوم بإنقاذ إرث ابن تيمية-ابن القيم من سلبيات البربهاري الإفنائية المتأزمة. هكذا ستتمكن الدراسات الإسلامية الأوروبية من طرح سلفية تصوفية ناعمة. تاعيشية متجدلة مع الآخر بوشائج تسمح بالتنوع والتعدد.
بعد ذلك يستطيع من يصر على الأنموذج السلفي من الأخذ من هذه السلفية/الصوفية المنقحة دونما أن تكون أفكاره إقصائية للتنوع الديني واللاديني في المجتمعات.
لكن كان هناك مشروع سلفي آخر، بل حتما من نوع آخر أطلقه محي الدين بن عربي الأندلسي (558 هـ- 638هـ). فابن عربي المتصوف المشهور كان أيضا في زمانه (وليس في زماننا) مشهور بشيء آخر وهو فقهه. كان ابن عربي سلفيا جدا على مستوى الفقه. فهو يؤمن باللامذهبية وهي ركيزة فقهية يروج لها السلفية.
فكان ابن عربي يضيق على الإنسان فرص التقليد ويحث كل فرد يمتلك سعة كافية من صنع مذهبه الصغير الخاص به. فابن عربي من الناحية الفقهية يتوافق مع السلفية جدا بكونه لا يؤمن بالتقليد المذهبي.
ومن الأسر العربية التي مازالت تحافظ على إرث ابن عربي التصوفي ذوقا واللامذهبية فقهيا هي الأسرة الصّديقيّة الغُماريّة المغربية. فهي من ناحية تشجع اللامذهبية ومن ناحية أخرى تشجع تصوف ابن العربي.
إذا نحن أمام أنموذجين. فهناك أنموذج متاح لمن يريد أن يكون حنبلي متصوفا كأبي الفرج بن الجوزي وهناك أنموذج آخر لمن يرغب بانموذج اللامذهبية المتصوفة كتلك التي عمل بها بن عربي الأندلسي.
ختاما المتجدلة التصوفية – السلفية إرث ذو تاريخ قديم. إرث متصالح في شخص أبو الفرج بن الجوزي وفي شخص ابن عربي الأندلسي صاحب الفتوحات المكية. ويمكن لمحبي السلم والسلام المجتمعي في أوروبا إثراء الوعي لدى الشباب بالتخلص من أفكار البربهاري الدخيلة وبتنقية كتب ابن تيمية وابن القيم منه لكي نعطي لمجتمعاتنا الاوربية وللعالم الإسلامي الفرصة من تعايش متعدد متصالح.
جميل جدا هذا الاتجاه في الغرب خاصه