يارب موز
كالقطبِ الشمالي أرضية الحمام شتاءً, يرتجف من تحت بقايا برده حتى الخشب الجاف, وهو البرد ذاته الذي يمتد برعشاته إلى جسدي الصغير حينما أعبر بقدماي تلك أرضية.
بقلم حسين كري بري
فنان تشكيلي مقيم في المانيا
كالقطبِ الشمالي أرضية الحمام شتاءً, يرتجف من تحت بقايا برده حتى الخشب الجاف, وهو البرد ذاته الذي يمتد برعشاته إلى جسدي الصغير حينما أعبر بقدماي تلك أرضية.
نافذتنا الصغيرة المستلقية في الجهة العليا تشبه ساحة مكتظة بالريح, تتقاذفنا ببردنا في جميع الإتجاهات، أما الباب القماشي الأبيض فلا يمكن وصفه أبداً, فهو الكريم الذي يرحب بالبرد دون الحاجة إلى قرع الجرس.
في المشهد: خلعتُ ثيابي, و وضعتها في السطل الهامشي, ويدايَّ تلتحفان جسدي البارد, أما عيني فتتربصان كجندي غِرّ في الجهة الأمامية بانتظار المبهم القادم.
هل خلعتَ ثيابكَ؟
دخل الصوت وتبعته أمي , حاملة الجردل المملوء بالماء الساخن والمغادر للتو من فوق “البابور” الهائج ناراً أسفله, لم تنتظر الأجابة مني , فقد رأت ما أنا عليه, فأسعفتني بالماء الساخن ثم بصابون الغار الذي ثار في عينيّ بركاناً وهو يتبادل والهواء البارد طعنات الزمهرير في جسدي.
ووسط هذا الأزدحام تعالت الصيحات والويلات سماء كري بري وحينما تلاطم الجردل بشيء ما , عرفت بأن أمي اسرعت للخارج , وبدأ صوتي أيضاً يعلو مع الرتل وأنا لا أعلم ما الذي يجري وعيناي تشعلان فيهما النار , لا أحد في المنزل ليسمع صراخي أو لينقذني مما أنا فيه, إلى أن أدركت أنه لا مفر إلا بي , فمددت يدي باحثاً عن قطعة القماش الموجودة في إحدى أركان الحمام ثم ازلت كلّ الرغوة, مع بقاء بعض بقع الصلصال , شعرت بالفخر وأنا أتحسس عملي البطولي.
إلى أين يركضون؟
ولما أغلبهم يرجعون ومعهم أكياس كبيرة؟
ماذا!…كإشارة للتعجب وأنا أنطق أسم “حمو” ماذا يفعل معهم ؟ ألا يجب أن يكون في المدرسة , إيعقل أنه وبعد مشاجرتنا خائف أن يذهب إلى المدرسة! كان قاسياً جداً , وهو السبب في توبيخ والدي لي ,
هنا أظهر الغضب على وجهي الطفولي البريء ليس كما الآن أبدو مثل عمال مناجم يبدو عليهم التعب والشحم والكثير من الوجع .
صرتُ مثل جهاز كشف الذهب أمشي خلف جارتنا الكبيرة في العمر والتي تعجز عن الركض وهذا طلبي فأنا عاجز أن ألحق الكبار في الركض .
- إنه شيء غريب , أول مرة أراه .
- ربما لعبة من ألعاب الأطفال , لا يهم سأعرف لاحقاً.
بعض رجال القرية يعودون حاملين الشيء الغريب ويتناولون الحديث بخصوصها ولكن مالذي حدث ومن أين أتو بها, فجأة يدخل في الحديث أبو محمد: أنها فاكهة ولكنني نسيت اسمها , والحمد لله ها قد أكتشف أحد الأهالي إنها فاكهة , وأخيراً ولكن ياترى ماذا تكون؟ التحقتُ بالسيدة كي لا يضيع مني الكنز المعرفي .
تجمعٌ كبير من الأهالي هناك في مفرق الأوتستراد , إذاً كما العادة هناك حادث مروري .
سأحكي لكم بشكل مختصر قصة المفرق في قريتنا الذي يقع على جسر حديث تم بناءه على عجوز صالح ندعوه بالشيخ الشبح حيث دُفن هناك من عقود ويقال مازال حياً يخرجُ ليلاُ ـ المصدر هنا الأهالي ـ .
كان الشيخ الفاضل مدفون هناك قبل وضع الجسر الزفتي فوقه , طريق قامشلو ـ اليعربية, تم تمديد هذا الأوتستراد لسهولة نقل المواد بكافة أنواعها من المواشي والسيارات والخضار وألخ بين سوريا والعراق, القبر كان في النهر الجاف ـ نهر الجراح ـ قبل إقامة الجسر, والغريب إن معظم أهالي أكدو إنهم رأوا الشيخ يخرج ليلاً بلباسه الأبيض ويشع نوراً من وجهه ويحكى أيضاً أنه بعد إقامة الجسر ومرور الشاحنات الكبيرة والحمل الثقيل فوقه الأمر الذي يزعجه وهو نائم فيحرك جسده وهنا السيارات تفقد السيطرة والقيادة ويتم عملية الحادث.
أتابع الركض ولكن قبل أن أتجاوز جارتي رأينا سيد ” بكو” والذي يحمل كمية كبيرة من الشيء الغريب في عربة النقل المنزلي ومتجهاً نحو المنزل وهنا رمت جارتي سؤالاً له: هل مات أحد؟ لا أعلم ياخالتي , ولم أنتبه لأحد سوى هذه ,
ياربي سترك …. الجارة المسكينة أظنها الوحيدة للآن تفكر بالسائق , تجري الأحداث والأهالي أياباً وذهاباً حاملين أكياساً ، والهواجس تأخذني تارة للسائق وتارة للشيء الغريب , هنا لا أبرز العمل الفكري الوحيد في أمر السائق وإنما بحكم تكرار مثل هذه المواقف مثل صورة سائق الغنم قبل عاماً من الآن مايزال معلقاً بين خطوط الجمجمة,
حمو” متجهاً نحوي رجوعاً , ماذا أفعل ؟ هل سيتشاجر معي مجدداً؟ جهزتُ اللكزة مع خوف ورجفة , ينادي “حسون” ويبتسم, لأول مرة يبتسم لي ويناديني بلطفٍ , بادرته بابتسامه : ماذا ؟ “حسون” ألحق نفسك وخذ كمية ايضاً, جميع رفاقنا أحذ منها , أعتقد إنه قصد الشيء الغريب الذي للآن لم نعرفه ماهيته, أجل أنا ذاهب, وكلانا يسلك طريقه , ومن ثم اسمع صوته من بعيد: سأعود قريباً لأملئ الكيس أبقى هناك وإلا سأضربك.
مثل هذه اللكنة في صوته سمعته البارحة وأدى لمشاجرة كالمصارعين
- حسناً حسناً … أكملتُ الركض دون النظر إليه.
أشخاص من قرى المجاورة مجتمعين حول الحادثة , لا لا أقصد حول الشيء الغريب وهم أيضاً يبادرون في أخذها , سيارات الأسعاف أخيراً أتت وبادرت بسرعة في نقل السائق, الخبر الجيد أنه بخير والخبر السيء الشيء الغريب تم عملية المسح عليه.
- كيوي , كيوي …… صدر الصوت من شخص نزل من سيارته , يبدو أنه من المدينة ويعرف أسماء الأشياء الغريبة أكثر من أهالي القرية ,
- هل يأكل هذا الشيء الذي تتدعيه كيوي؟ سأله أحد الأهالي .
- أجل أنه لذيذ …… عمل على تعبئة صندوق سيارته من الخلف.
بعد معرفة اسمها أخيراً وتوزيعها على الأهالي بطريقة ذاتية ,لم يبقى هناك أحد وكان المطر ينهمر وقتها,
- أين كنت ياولدي ؟ طعنني سؤال والدي مثل رصاص القناص دون سابق إنذار محملاُ بكمية لا بأس بها من الغضب .
- كنت هنا , لا كنت هناك, لم استطع النظر في عينيه , لا أعلم لماذا , هل كان ياترى خائف علي من المرض , أم خوفاً من شيء مكروه يحصل لي؟
- أذهب وغير ثيابك قبل أن تمرض وأدرس. -هنا رصاصة أخرى-.
- حسناً , حسناً ….
دخلتُ الغرفة الثانية لأغير ملابسي المبللة , ماذا؟ ثلاث أكياس متوسطة الحجم مليئة بالكيوي , لم أنتبه للعائلة في مكان الحادث , الفضول جذبني لألمسها لا أعلم لماذا وفجأة يرن الهاتف. تبين أنه أحدى أقربائي.
- سيأتي سمو” ليأخذ كيس ويذهب إلى المدينة , يقولها والدي بعد أن أغلق السماعة , إننا لا نأكلها لماذا نشتمل عليه , لم يكن لذيذاً كما يدعون,
هنا أصدر صوتاً خافتاً لم يسمعه أحد: ربما يلزمها أيام لتنضج,
استمر الوضع أسبوعاً هكذا ,وبقي كيساً صغير في زاوية الغرفة , وأخيراً عرفنا أنه يمكننا الآن أكلها لأنها نضجت. ياللفرحة.
قصة شاحنة الكيوي تحدث عنها العالم وأصبحت حكاية من حكايات المفرق , لا أتذكر زمنها جيداً ولكنها كانت قبل حادثة شاحنة الغنم هناك, لم يكن الأمر متوقف فقط على الكبار وإنما أيضاً نحن الصغار كنا نتحدث عنها حيث كنا نجلب كل يوم قطعة واحدة من الكيوي ” لحمو” كي لا يجلب لنا المشاكل.
قرابة غروب الشمس في يوماً ما لا أتذكره، بحث عني والدي وأخي الكبير كثيراً إلى أن وجدوني مع بقية الصغار على مفرق القرية رافعين يدينا وندعو أن تمر من هنا شاجنة موز كما الكيوي ونقول : ” يارب هذه المرة موز ” يارب موز.