وقفة عابرة عند فاشية السلوك اليومي.. والفاشية الثقافية
د.برهان شاوي
بعيدا عن الجملة المتوارثة والتقليدية التي استخدمها غوبلز، والتي أخذها بدوره من إحدى المسرحيات في ثلاثينيات ألمانيا، والتي يعرفها حتى رجال الدين: “حين أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي”.. والتي تجسد الفهم التقليدي والمبتذل لعلاقة الفاشية بالثقافة، وهو فهم باطل تسفهه عشرات بل ومئات الشواهد الأدبية والفنية في مراحل الحكم الفاشي والنازي. أقول بعيدا عن هذه الجملة التقليدية الباطلة، لأنه ببساطة للفاشية ثقافتها، هوسها بالبناء الضخم والتماثيل الضخمة والصروح والقصور، والأوبرات والبالية الذي يمجد االتراث والروح الوطنية، والفن التشكيلي الذي يخلق جوًا نفسيًا حربيا وعائليًا، وعشرات الأمثلة الأخرى. فأن المفكرين ما بعد الحرب حاولوا تفكيك الأمر وحاولوا البحث عن الإجابة للسؤال الجارح : كيف أن مئات الملايين من الناس، عاديين ومفكرين، أدباء وفنانيين،كانوا يتشبثون بالسلوك الفاشي في أبسط مظاهر سلوكهم اليومي.
في مقدمته لكتاب “ضد – أوديب” للمفكر الفرنسي جيل دولوز الذي يُعد الكتاب الذي بشر بما سُمي في ما بعد (ما بعد الحداثة) على الرغم من رفض دولوز لهذا المصطلح لاسيما بعد أن أرتبط بكتاب “ألف هضبة” لمفكر ومحلل نفساني على الطرف الآخر هو فيليكس غوتاري حيث ارتبطا معا لاحقا في كتب “الرأسمالية والشيزوفرينيا”، كتب ميشيل فوكو:
كيف يمتنع المرء من أن يكون فاشياً، حتى، عندما حين يكون ثورياً؟، كيف يمكن تحرير أقوالنا وأفعالنا، دواخلنا وأعماقنا، من الفاشية؟، كيف نتخلص من الفاشية التي تشرب بها سلوكنا؟.
وأهم ما يتوقف عنده دولوز وغوتاري وبعدهما فوكو هو: لا تقع في حب السلطة والهيمنة.
في تلك المقدمة يطرح فوكو:
كيف يمتنع المرء من أن يكون فاشياً، حتى وخاصةً عندما يعتقد في كونه مقاتلاً ثورياً؟، كيف نحرر أحاديثنا وأفعالنا، قلوبنا ولذائذنا، من الفاشية؟، كيف نستخرج الفاشيةُ المنقوعةُ في سلوكنا؟.
وبعديا عن القضايا الشائكة التي توقف عندها هذان المفكرا “ديلوز وغوتاري” ومحاججتهما للماركسية والفرودية من منطلقات الوعي المضاد لمفهوم الصراع الطبقي، وانصياع الملايين للسلطة الفاشية، ومفاهيم الرغبة، السلطة، الهيمنة، فأن تحليلهما العميق لفاشية السلوك اليومي عند “الأفراد” أو حتى عند الجموع، ومحاولة اسيعاب هذه الطروحات والمفاهيم المضادة في تفسير السلوك الفردي والجمعي في بلدان الشرق نجد أن فاشية السلوك لدينا عميقة، ليس فقط عند السياسيين التقليديين وجيشهم من المثقفيين العضويين والتقليديين، ووسائل إعلامهم، وفضائياتهم وصحفهم ومواقعهم الألكترونية، وأنما أيضا لدى العلمانيين بل وحتى الثوري إن بقى مثل هذا النوع، وكذا ينسحب على شريحة المثقفين التي تعتقد أنها تتعالى على الوعي الاجتماعي والسياسي والفكري السائد.
لقد حاول هربرت ماركوزة في كتابه القيم ” الإنسان ذوالبعد الواحد” تفكيك المجتمعات الرأسمالية وإعادة النظر بمفهوم الفرد والطبقة، وفيما بعد محاولة دولوز وغوتاري، للوصل إلى المقاربة الخطيرة التي هيمنت على الفكر الأوربي والحضارة الأوربية، وهي مقاربة العبيد والسادة، حيث يؤكد دولوز وغوتاري على عكس لاكان الهيغيلي الفرويدي بأنه لم يعد يوجد أي سادة، بل عبيد فقط يأمرون عبيدًا غيرهم، وأن الإنسان ليس عبد الآلات التقنية ، وانما هو في الواقع عبد للآلة الاجتماعية.
أتذكر قصة قصيرة وجميلة للكاتب الألماني هاينريش بول، الذي تشرفت بالحصول على منحته للكتاب الأجانب في المنفى في نهاية الثمانينات، والتي تتحدث عن السلوك الفاشي، من خلال حكاية عن سجين هارب في زمن النازية. وكان شرطيان يلحقانه، وحدث أن مر الشرطيان بصبي يرعى. كان الصبي يقف قرب بقرة بيضاء، فسألاه عن السجين الهارب فنفى رؤيته له، ثم سألاه فجأة عن لون البقرة فقال إنها بقرة بيضاء، فقالوا له إنها بقرة سوداء، فقال لهما :لا..إنها بيضاء. فما كان من أحدهما إلا إن لوى أذن الصبي بقوة وقال له : نحن نقول لك إنها سوداء، هيا قل إنها سوداء. فأخذ الصبي يتلوى ألما وقال: إنها بقرة سوداء.
دولوز وغوتاري ومعهما فوكو يمضون أبعد في تفسير السلوك الفردي والطبقي، بأنه حتى الحزب الثوري لديه مشروع للهيمنة. لكنهما يربطان الهيمنة بالرغبة “عودة لفرويد من وعي مضاد” وليس بالشعارات الطوباوية. لأن في رأيهما حتى السلطة الجديدة تحتاج لعقود من أجل تغيير الفرد، فأساسا الفرد معطى من قبل سلطة سابقة.
وفي المجتمات الشرقية، العربية والإسلامية، وكذلك في المجتمع العراقي، نجد أن ملامح الفاشية في السلوك اليومي، في الوعي الفردي واللاوعي الفردي، وفي الوعي واللاوعي الاجتماعي، قد تشكلت خلال عشرات القرون.
وفي اللحظة التاريخية الحالية، يمكن رصد الفاشية في كل مظاهر الحياة بدءا من السلوك السياسي، والاجتماعي، والديني، والأدبي، والفني، والنقدي، وحتى في التقبل الجمالي، فالعدوانية في السلوك اللفظي والجسدي موجود ضد أي شيء جميل في حياتنا، بدءًا من النظرة إلى المرأة الجميلة، والأناقة، والتعامل اليومي في البيت والدائرة والجامعة، ومع البائع في السوق، ومع سائق التاكسي، ومع إمام المسجد، وسادن الأضرحة المقدسة، وحمايات المسؤولين، وبرامج الصباح التي تقدمها الفتيات الحسان، ونشرات الأخبار وطريقة تقديمها، والمقابلات مع الفنانين والفنانات، والمقابلات السياسية اتي تتصاعد منها نتانة الروائح الفاشية داخل الإستوديو التلفزيوني، وفي المواقع الألكترونية، وتصريحات الكتل السياسية، وفي اللجان الأكاديمية في الجامعات، وفي السيطرات الأمنية، بل حتى في علم البلاد .. .