وجودي في الهامش…أسئلة تقلق العربي في ألمانيا
إعداد: محمد الزّكري
لبست وخرجت على عجل لملاقاة صديقتي الألمانية ذات الجذور الصربية لكي أسألها عن كيف يعالج
الصربيون في منطقة الشبري فالد Sorbs (Wends) in the Spreewald
قضية الانتماء المثنوي الى الأمة الألمانية والأمة الصربية؟ لم أجدها.
فهرعت إلى صديقي العراقي المهاجر وشربت معه فنجان من القهوة و سئلته:
هل العرب في ألمانيا متحوصلين داخل كيس ثقافي يكون اتصاله بالجسد الثقافي الألماني اتصال وجودي
بسيط؟ فأكد لي أن العرب الذين يعرفهم أقرب إلى أنهم هنا في إطار ليس هنا.
بعد ذلك دخلت في دوامة فكرية حادة سببت لي صداع لم يذهبه فنجان القهوة الثاني.
اتصلت برئيس تحرير آراب الثقافية السيد أحمد الظاهر وأخبرته إني أمر في أزمة فكرية.
وتساءلت هل العرب هنا مؤقتا؟ فإذا الأمر كذلك سيعودون قريبا ولن نحتاج الى معالجة قضيتهم.
ولكن أعتقد إنني هنا لأبقى لكي أنجب أطفال هنا ولتبقا ذريتي هنا. أنا عربي في ألمانيا لأبقى.
إذا كان هذا وضعي ووضع الكثير من العرب فمعنى ذلك أن هناك أسئلة كثيرة وكل سؤال أصعب من الآخر.
إنني لا أعرف ماهي أسئلة أبنائي؟ عندما يكبرون سيسألون أسألتهم. لكن في جعبتي أسالتي الكثيرة.
لقد نشأت في جهة عربية تحديدا شرق الجزيرة العربية. تحدثت اللغة العربية المتشربة بثقافة العرب ومن خلالها تعلمت منطق التفكير.
جلست في الحلقات وتعلمت التفكير التقليدي، ذهبت الى أمريكا ثم بريطانيا فاحتككت بالعلمانية والمدنية، ثم عدت الى شرق الجزيرة العربية فترة من الزمن
في تلك الفترة صقلت ثقافات علقت بي في فترة ترحالي وجعلتها تتصالح مع ثقافتي العربي.
اليوم أنا في ألمانيا أعمل كمتطوع في مؤسسة آراب الثقافية والتي تعنى بثقافة العرب في ألمانيا،
فتحول سؤالي إلى: كيف أستطيع أن أصيغ ثقافتي العربية للتصالح مع الثقافات الألمانية؟
خطر ببالي إنه يمكن أن أجد في دراسات العولمة وتجربة التعولم التي تغمر العالم على أجوبة تساعدني في رسم معالم وجودي في ألمانيا.
أخبرت نفسي أن العرب في البلاد العربية يتعرضون لرياح عولمية كثيفة، أي يتعرضون بشدة إلى احتكاك
بالثقافات الأوروبية والأمريكية والشرق الأقصوية عبر الثقافات المتشبعة في المنتجات من سيارات وملابس
وهواتف وحواسيب وأفلام وموسيقى ومطاعم ومقاهي والتي تزحزح الثقافات العربية في اتجاهات جديدة.
بعد ذلك أخبرت نفسي أننا في ألمانيا أقرب لحالة تعولميّة لكنها أشد بمراحل عظيمة من الحالة التعولميّة التي يمر بها العربي في بلاد العرب.
الأسئلة لا تتوقف فأنا أعلم أنه لا يمكن لي أن أعيش في داخلي الثقافية كما أخبرني صديقي المهاجر
إني بدأت أستشعر انتمائي للأمة الألمانية يدب فيني.
فتراني أتابع تأثير الاحتباس الحراري على المناخ الألماني، أجدني أصلي من أجل المطر في ألمانيا، أجدني أتابع بقلق تعثر تطور السيارات الكهربائية الألمانية وخطورة احتمال فشل تطورها على قطاع السيارات
الألمانية وكيف سيؤثر هذا التعثر على حياة الكثير من شركاء التراب الألماني الذي بدأت أنتمي إليه، أجدني أتضايق عندما تقول لي صديقتي الألمانية أن محلها التجاري يتعثر ويدفعني للتفكير في وسائل تنشيط محلها
التجاري، لكنني في ذات الوقت أعرف أني عربي ولي انتماء مع الأمة العربية من خلال اللغة والثقافة والفن
والذوق والدين ويهمني أن تدرك ذريتي كل هذا.
يبدو إنني بدأت أدرك إني أخوض تجربة مركبة من الهويات، ففي بلاد العرب أخبرهم إني عربي أقيم في
ألمانيا، وفي ألمانيا أخبرهم إنني ألماني من جذور عربية. في كلا الحالتين أنا متعدد الهويات والرابط بين تعدداتي الهويّاتيّة هو شكل الواصل (-) “عربي – ألماني” أو “ألماني – عربي”.
الأكثر غرابة إنني أعلم إني أعيش حالة انزياح متواصل من المركز باتجاه التخوم، إنني “عربي – ألماني” لدى أبناء العرب في بلاد العرب أخذ يخضع لعملية القوة الطاردة من المركز centrifugal forces ،
فلم أعد هناك عندهم إلا بشكل افتراضيا غير واقعي، وجودي يصل لهم من خلال قنوات السوشال ميديا،
فتحولت متغرب في أعينهم ولم أعد كما كنت في أعينهم.
لكن الأمر لا يختلف عندما أكون ألماني – عربي فأنا بالنسبة للألمان الآخر الذي يقع خارج المركز الألماني.
هذه التجربة، أي تجربة أن أكون “خارج المركز”، هي حالة العربي الوجودية الراهنة، وأجدني أن علي أن
أبني مفاهيم انتماءاتي العروبية والألمانية انطلاقا من أماكن التخوم.
لقد قررت أن أفتح قنوات اتصال مع أفراد ألمان ينتمون إلى ثقافات متفاوتة لنقلها للعرب في ألمانيا. ليتعرفوا
على الثقافات التي يعج بها التراب الألماني. ولكني في نفس الوقت أبحث عن ألمان ذوي قدرات تواصلية، عبر
منصاتهم الثقافية، مع جماهير ألمانية. لكي أتمكن من خلالهم ان اسمح لجماهيرهم بالتعرف على شقي العربي.
هذا دفعني للتساؤل من أنا العربي؟ وإلى أي جزء من ثقافتي العربية الهائلة أنتمي؟ وما هي تلك الجزئية
الثقافية التي أريد الألماني أن يتعرف عليها من خلالي؟ هذه الأسئلة تشقح بي الى تساؤلات أخرى عن شقي الألماني.
أتساءل ما هي الأجزاء المعرفية والأوصال الثقافية الألمانية التي يجب أن أطلع عليها؟
هل أريد أن أتثاقف مع الثقافية المادية أو الأداتية أو الجمالية أو العقلية أو الفردية أو الريفية أو المدينية الألمانية؟
المتاحات من الثقافات العربية والألمانية كثر ولا تحصر، ولكن الذي يقلقني هو أنني لا أمتلك معادلة واضحة أو قاعدة أستطيع من خلالها تقليص اختياراتي الثقافية واختزال طموحاتي في مواقف محددة.
هذا يعثر من صنع قرار من إنطلاقي في رحلتي الوجودية من التخوم.
حتى إشعار آخر، قررت أن أبني لي منزل صغير فوق جسر يربط بين قريتين يفصلهما نهر، قررت أن أكون
زائر لقرية العرب تارة وتارة لقرى الألمان، قررت أن أكون هجين ثقافي يقيم فوق جسري، هجين يسمح لذاتي أن تمارس ذاتيتها تارة وتارة من القدرة على فهم الإشارات والرموز الثقافية الألمانية والعربية تارة أخرى.
الحديث لم ينتهي وبلا شك فإن له بقية