موسى الزعيم يرقص مع الريح
د. محمد الزكري القضاعي
موسى الزعيم، مواليد سورية والبرليني إقامته منذ عام 2015، حصل بإبداعه على عدة شهادات تقدير وعدة جوائز أدبية ، له العديد من الإصدارات الأدبية منها “الأساس” و “من روائع القصص” عمل ككاتب نقدي وقصصي في عدة صحف و مجلات.
إننا نقف للوهلة الأولى في حيرة الاختيار، ونتساءل: من أيّ بابٍ ندخل إلى عالمه؟
لقد قابلته على هامش لقاءات النخبة العربية في العاصمة الألمانية قبل أسبوعين. تحدثت معه ووجدت نفسي أمام إنسان واسع الثقافة، دقيق العبارة، لا يفرض أفكاره بل يرسلها في فضاء الحوار النقدي لينتقي منها المستمع ما يحلو له بقناعة.
أهداني آخر إصداراته وهو كتاب يحتوي على ٢٥ قصة قصيرة بعنوان “الرقص مع الريح” من مطبوعات “دار الدليل للطباعة والنشر” في برلين.
شدني عنوان المجموعة ” الرقص مع الريح” فقلت في نفسي يا الله! إننا مع شخص يعبر بقلمه عن معاناة شعب.
من يرقص مع الريح يعني إنه في العراء وحيدا تقرع به الريح، إنسان بلا مأوى بلا منزل بلا وطن.
قررت أن أبدأ قراءة الكتاب انطلاقا من قصة “الرقص مع الريح”.
قرأت القصة فذهلت بعبقرية حبكة القصة. وذهلت بقدرة القاص على نقل محنة شخصية القصة الأساسية لتجعلني طواعية أخوض تألمات معاناتها.
مفردات القصة سهلة بسيطة ولكنها عميقة في جوّانية معانيها. يفتتح موسى الزعيم قصته بإقحام القارئ معه إلى داخل شقة، إلى داخل غرفة، و إلى داخل قلب. القاص، من خلال صوته الداخلي مستخدما بحذاقة لغة منولوجية يتحدث إلينا نيابة عن بطلة القصة، ليخبرنا بسرعة عن أجزاء من معاناتها.
فمسرح أحداث القصة يقع حول اتصال بين نافذتين بين شقتين بين شخصين بين قلبين. النافذة طاقة أمل، بصيص ضوء طوق نجاة لتلك الأنثى التي تتضور من معاناة الوحدة.
البطلة تعودت أن ترقص تارة وتارة تسرح شعرها لجذب انتباهه، والرجل من نافذته الأخرى غير معروف لدينا غير أنه تارة يصفق لها من نافذته وتارة ينجح من قذف وردة حمراء عبر طاقته إليها عبر نافذتها.
هناك عتمة تخيم على المكان، ليل و ظلمة المكان يفتقد الى ضوء الشمس، الليل طويل والفرج لم يشرق بعد،
الأنثى يلتهب جسدها ويتوجد قلبها له. كل ما هو متاح متاح من تلك النافذتين.
انهما جسر التواصل الوحيد في ظلام معتم يطوق الوجود.
فجأة يترك القاص لغة التحاور المنولوجية الداخلية فتبدأ بطلة القصة تتحدث الينا من خلال ديلوج تحاوري،
لتخبرنا من خلال صوتها عن مخالجها، أخبرتنا أن الرجل في الشقة المقابلة قد يكون شبع منها أو إنه عاش
حياة سعيدة مع امرأة أخرى،
وفجأة ينكشف للقارئ أن بطلة القصة امرأة كانت متزوجة وهي الآن أرملة، كبرت ذريتها وتركوها وهي الآن
وحيدة، فجأة نكتشف أن الرجل هو أيضا مثلها أرمل.
نحن أمام جيل الأباء المهجورين تماما من قبل اهتمامات الأبناء، نحن أمام التراث الأصالة الأصل ترك في
وحدته مركونا في ظلمات الليل والوحدة.
المشهد بدأ يتضح رويدا رويدا فنحن أمام مشهد يحكي تشتت العلاقات الإنسانية ويحكي عن مضي أعوام
طوال على تمزق الأسرة الصغيرة ومعه الحارة ومعه يخيم الظلام فوق ربوع كل التراب.
لكن لحظة إن حب مقاومة هذا الواقع بكسر واقع التفكك الاجتماعي لم يغادر رغبة البطلة، لم تستسلم.
ثاني يوم ذهبت بطلة القصة واستوقفت ابنة الرجل واسمها “رؤى”، قالت البطلة لرؤى: أن أباها يغازلها، ويترك
ضوء غرفته مشعلا طيلة كل ليلة، ونافذته مفتوحة على شقتها، وأنه لا بد من أن تجد نهاية لهذا، من خلال مقابلته.
البطلة استخدمت لغة العادات والأصول لأنها من ذلك الجيل، جيل الأصل الملتزم بمنطق أخلاقي صارم، ولكن
نتيجة هذا الحوار أتى على غير المتوقع.
صدمتي كقارئ وصدمة بطلة القصة وصدمتك أنت كقارئ مدوية عندما نعلم من خلال تصريح البنت رؤى أن
أباها منذ أسبوع في الطوارئ، وأنها هي التي تركت النافذة مفتوحة رمز “الأمل” الذي كان يحلم من خلالها أباها، عسى ولعل يعود. النافذة الأمل ترقص مع الريح..
تنتهي القصة أمام هذه النهاية المذهلة، تاركة خزان هائل من المشاعر والترقب والأسئلة مفتوحة بلا أجوبة.
باقي القصص لا تختلف في براعة سبكتها وألغازها وإشاراتها. ولا تختلف في تنقلات صياغات الإخبار عن
شخوصاتها تارة بصيغة المنولوجية وتارة بصيغة الديالوجية.
لقد شد انتباهي أن قرابة ثلث القصص كتبت قبل الربيع، وثلث أثناء الربيع، وثلث بعد الوصول الى التراب الألماني.
موسى الزعيم، الإنسان، يحمل حنين ويدون ببراعة عن محنة الإنسان العربي، عن غربته في الوطن، وغربته في السفر، وغربته في الهجرة.
ولكن كل تغربات شخصيات موسى الزعيم تحمل إنسانية وقيم، تحمل ذكاء وفطنة، تحمل واقع وحقيقة صنعت
في خيال قاص من خلال قصصه القصيرة.
الآن أنا أجهز كوب الشاي وأودعكم لأني سأبدأ قراءة قصة “الزحف” وهي قصة واقعية حصلت أجزاء منها
لموسى الزعيم في الوطن وأجزاء منها في ألمانيا. إنني أتطلع الى السفر مع خيال موسى الزعيم في بقية القصص.
في أمان الله