لماذا غاب عزمي بشارة بين الأيديولوجيا ولم يرى أنطوني غرامشي؟
في هذه المقالة سأقوم بقراءة نقدية لعزمي بشارة كمفكر ومثقف عربي لا كإنسان صاحب توجهات سياسية. فقد لامس عزمي بشارة في أكثر من محاضرة ومن زوايا مختلفة مفردة ” الإيديولوجيا ” في إطار سلبي كما إنه تطرق إلى “أنطوني غرامشي” (و. 1891 ت. 1937) وأبرزه كمفكر عادي مجردا من العبقرية.
في هذه المقالة سأقوم بقراءة نقدية لعزمي بشارة كمفكر ومثقف عربي لا كإنسان صاحب توجهات سياسية. فقد لامس عزمي بشارة في أكثر من محاضرة ومن زوايا مختلفة مفردة ” الإيديولوجيا ” في إطار سلبي كما إنه تطرق إلى “أنطوني غرامشي” (و. 1891 ت. 1937) وأبرزه كمفكر عادي مجردا من العبقرية.
لقد أخفق عزمي عندما قرأ غرامشي كأول من تطرق الى فهم الدولة “الحديثة”. فحداثتها تحديدا انطلقت من خلال إتقانها لصناعة سردية “المسلمات” المتعالية، تلك المادة الخام التي تصنع منها أيدولوجيات الهيمنات و الهيمنات المقابلة.
لا أدرى لما لم يتمكن من رؤية أطروحة غرامشي التي ميّزت الدولة الحديثة كدولة أبدعت في أنتاج هيمنة بلا كراهية عبر المجتمعات المدنية الخادمة لها.
ففي هذا الإطار استطاع غرامشي إبصار أهم استراتيجية تسمح بتحول الدول من مجرد دول سياسية إكراهية لا تقوم هيمنتها إلا على إكراه الناس من خلال السلاح إلى دول حديثة وسعت مفهوم هيمنتها من خلال إشراك ثقافة لا-إكراهية مدنية لتلعب الدور الأهم لاستتباب سيادة الدولة.
شخّص غرامشي تواجد ثلاثة أنواع من المثقفين الفاعلين في المجتمع. مثقف الدولة الخانع المبرر لكل أفعالها، مثقف الدولة الناقد الناصح الذي يعمل من خلال الدولة، مثقف المعارضة الناصح الذي يعمل من خارج نظام الحكم.
فمشكلة غرامشي لم تكن مع الدولة الحديثة بل مع تلك الدولة الحديثة (تحديدا من خلال تجربته مع الدولة الإيطالية الفاشستية) التي تُشَيّد سيادتها المدنية فوق هياكل خطابية (أيديولوجية) يساهم ببثّها طاقم من مثقفين خانعين لا يسعون الى تحقيق العدالة الاجتماعية.
فهذا النوع من المثقفين المواليين وغير الناقدين يرَوّجون لخطوط فكرية تجتهد على تكرير صيغ كلامية مستوحاه من سردية “المسلمات” لتعيد إنتاج صور من تلك المسلمات على مسامع جماهير الدولة الحديثة.
كما فطن غرامشي أن الدولة الحديثة تسيطر على إقحام مسلماتها بشكل غير نقدي في محتويات كراسات المدارس والمدارس و الكنائس (المساجد) بل حتى عند انتقاء ذلك القس الذي يردد مسلمات الدولة الحديثة.
فلا تجد في الدولة الحديثة سوى ذلك القس الذي يدعو، على مسمع من المصلين، الرب لكي يرضى على الدولة نتيجة كرمها بتبرعها للكنيسة ولمساعداتها المالية لإعطائها لفقراء الكنيسة.
هكذا يتحول رضا الناس على الدولة الحديثة الى جزء من مسلمات غير قابلة للنقد لدى الجماهير المستهلكة لتلك الخطابات (أيدولوجيات) التي يبثها مثقفي الدولة الخانعين لها.
الفيلسوف الإيطالي، غرامشي ذاته كان يعمل من خلال أروقة الدولة. حيث أن غرامشي كان برلماني (عضو في البرلمان عن دائرة فينيتو الإنتخابية) في ظل رئاسة موسيليني للوزراء (حاكم إيطاليا ما بين 1922 و1943) على المملكة الإيطالية (تحولت الى جمهورية في عام 1946).
في تلك الفترة كان موسيليني يعتمد على كم هائل من مثقفي جماعته الفاشستية ليقوموا بترديد خطابات وأيديولوجيات تصنع مسلمات نظامه في وعي الناس بشكل عاطفي وغير نقدي. مسلمات تقول أن كل شيء تمام، وأن العمل على خير ما يرام، ومن أن نظام موسيليني يحقق الرفاهية للجميع.
في حين كان هدف غرامشي هو خلق وعي نقدي بين رجال الدولة يهدف الى إيجاد حلول عميقة لمعالجة معاناة الشعب الإيطالي الذي كان، حينها، يعاني من بطالة متفشية وضنك المعيشة في مجتمع إقطاعي لم ينتقل بعد الى مجتمع صناعي.
كما كان هدف غرامشي خلق وعي أكبر لدى جماهير الدولة من أجل أن يمارسوا عملية نقدية لأهمية مراجعة نمط تقبلهم غير النقدي لسرديات الدولة الكبرى “المسلمات”.
لذلك نادى غرامشي بأهمية دور المثقف الناصح الناقد سواء الذي يعمل من داخل أروقة الدولة أو من خارجها.
لقد إنتبه غرامشي أن المجتمع ليس مكون من كتلة صلبة مصنوع من مكون متجانس. غرامشي فطن أن المجتمع يتكون من أكثر من جماعة. كما فطن أن لكل جماعة مثقفيها الذين يفهمون ايدولوجيات الجماعة ويفهمون كيف يصيغون خطاباتها.
لقد وضع غرامشي هدفين رئيسين للمثقف العضوي الفاعل في الجماعة. الهدف الأول هو صناعة سردية لمُسَلّمة جديدة غير تلك المسلمة التي ترعاها الدولة. مسلمة تؤمن بتوفير العدالة لا فقط للجماعة التي ينتمي اليها المثقف بل لكل الجماعات.
كما ناشد غرامشي المثقف على العمل الجاد من أجل تجانس الجماعة بإذابة الإختلافات الثقافية بين أتباع الجماعة التي ينتمي اليها. فلو قام كل مثقف بإذابة الإختلافات الثقافية الصغرى بين أفراد جماعته لتَنَقّى المجتمع من شوائب الإختلافات الثقافية الكبرى.
عليه فإن غرامشي وهو يعيش في أجواء الدولة الحديثة أسس لمشروعه والذي يمكن إختصاره بأنه مشروع يشجع المثقف من التحرك في الفضاء اللا-إكراهي، في فضاء المجتمع المدني من أجل تشييد عدة صيغ لمسلمات أكثر من جماعة تتقاطع جميعها بأنها تبث قيم عداليّة تتطلع الى ضمان كرامة كافة الجماعات المكونة للمجتمع.
غرامشي رفض أن تستغل الدولة الأسلوب الإكراهي لمواجهة الجماعات كما رفض أن يستخدم المثقف الأسلوب الإكراهي لمواجهة الدولة. بل أطّر حدود ومساحة ومواضيع الصراع ليكون بين مثقفي الدولة الخانعين لها وبين مثقفي الدولة الناصحين لها.
كما جعل مقاصد الصراع الثقافي حول إنتاج “المسلمات”. فمثل ما أن الدولة تنتج وتعاود إنتاج من خلال مثقفيها الخانعين لها الوعي المسلماتي بين أفراد المجتمع. وعي يتعاطف مع الدولة ويقدم لها الأعذار ويسمح بتجاهل مساوئ أدائها وتقصيرها، فإن غرامشي يقول أنه على مثقفي الدولة الناصحين لها إنتاج مسلمات أخرى.
مسلمات تكون مسلماتها قائمة على إحداث حوارات جدلية محاسبيّة تدقق في تقصير الدولة.
أرجو أن تنير أفكار هذه المقالة الفضاء للمفكر عزمي بشارة ومن أن تعينه على مراجعة قراءته السابقة ل أنطوني غرامشي نحو قراءة جديدة.
مقال ماتع وممتاز وسرد متناسق الفكرة والتدرج …
افكار خلابة يحتاجها المفكرين ليتحرروا اولا والسلطة ثانيا والمجتمع ثالثا ….
شكرا دكتور محمد جدا استفدنا من مقالكم الكريم وسُعدنا به