عندما تكون ألمانيا متعددة يكون السؤال: أين أخوض “التكامل”؟
أحاديث الأصحاب والأصدقاء العرب لا تخلو من ذكر تجاربهم المحلّيّة مع الألمان. يمكن تصنيف بعض هذه التجارب بالحضاري بإشراقها الأخلاقي وتنويرها المعرفي، وآخر يندرج تحت العلاقات الطبيعية التي تتصف بالمهنية في مساحات العمل الميداني والمكتبي وبعضها يفقد صبغة المعاملة المعقولة ليكون أقرب إلى التحرش والجرح المعنوي وفي بعض الأحيان الجسدي.
د. محمد الزّكري
أنثروبولوجي يقيم في ألمانيا
أحاديث الأصحاب والأصدقاء العرب لا تخلو من ذكر تجاربهم المحلّيّة مع الألمان. يمكن تصنيف بعض هذه التجارب بالحضاري بإشراقها الأخلاقي وتنويرها المعرفي، وآخر يندرج تحت العلاقات الطبيعية التي تتصف بالمهنية في مساحات العمل الميداني والمكتبي وبعضها يفقد صبغة المعاملة المعقولة ليكون أقرب إلى التحرش والجرح المعنوي وفي بعض الأحيان الجسدي. نحن هنا في ألمانيا الكل يخبرنا أن علينا خوض “التكامل-اندماجية” في المجتمع الألماني. لكن أمام هذه التجارب التي تعكس مرجعيات ألمانية متنوعة نتساءل هل المجتمع الألماني الذي علينا أن “نتكامل معه ونندمج فيه” مجتمع واحد أم حقيقة هو مجتمعات؟ ومن ثم في أيهم ينبغي أن “نتكامل معه و نندمج فيه ؟
ملاحظة لفهم ما لمقصود ب مصطلح التكامل والاندماج عود الى آراب واقرأ مقالة:
التكامل (INTEGRATION) أو الإندماج في المانيا!)
هذه المقدمة تضعنا أمام جملة من الإشكاليات تُأشْكل “مشروع” “التكامل-اندماجية”. حيث أن مقالة “التكامل-اندماجية” الراهنة لم تشخص لنا معنى الوطن الألماني المشترك؟ ولا ما هي الآلية التي تجعله يتعدد، فيتحول من ألمانيا ذو مرجعية واحدة إلى ألمانيات ذو عدة مرجعيات. ومن ثم لم تخبرنا مقالة “التكامل-اندماجية” الراهنة أن معنى ألمانيا عند كل واحد فينا سيختلف عن الآخر نتيجة تجاربنا ووعينا ومتخيالاتنا، بمعنى آخر أن معنى الوطن سيتشظى إلى ما لانهاية وإنه (عند مستوى المِخْيَال) قد لن يتسنى لواحدٍ منّا من أن يقابل شخص آخر فوق ألمانيا يتخيل ألمانيا كما يتخيله.
سعيا خلف ضبط “التكامل-اندماجية” في إطار أطروحة واضحة تفسر هذه الديناميكيات (المنسجمة والنّشازية) في آن واحد سأقوم بفتح موضوع السّرد والخطاب والمتخيل.
أولا: سأجتهد لفهم كيف يعمل “السرد” على تجميع الجميع تحته ليشتركوا في الاتفاق حول مفهوم وطن جامع يحوي الجمع البشري المتعدد والمتنوع،
ثانيا: سأنتقل إلى فهم كيف يعمل “الخطاب” تحت وطأة الساسة الى تجيير السرد الجامع الأكبر ليقتطع منه خطاب ليعبر عن توجهات جزء أصغر لمفهوم الوطن، ليخص جماعة محددة من المجتمع، لتجمّعهم كحزمة تحت شعارات حزبية معينة،
ثالثا: سأثابر لفهم كيف تتوغل التجارب الشخصية إلى الذهن، كيف تلهم “المتخيلة”، ليتخيل منفردا ما هي هويته ما هو حزبه ما هو خطابه ما هو وطنه.
السّرديةالكبرى / Grand Narrative
Jean-François Lyotard
عند البحث عما هو الجامع الأكبر لمفهوم الوطن الذي يتسع للجميع لا يمكن بأي شكل من الأشكال تجاوز أفكار عالم الاجتماع الفرنسي جان فرنسوا ليوتار (ت. 1998) وهو الذي صك مصطلح السردية الكبرى / Großen Erzählungen. في تصور ليوتار فإن السردية الكبرى نوع من أنواع المعارف التي تلعب دور المشرّع لمفهوم الإجماع بين الجماهير المستهلكة لتلك السردية. عليه بتطويع أفكار ليوتار فإن مفهوم الوطن الألماني يكتسب شرعيته من سردية الدستور الألماني الكبرى. حيث أنه لم يمر علي ألماني واحد، بغض النظر عن انتماءاته الحزبية أو اللاحزبية، من لم يردد علي أن: الكل سواسية تحت الدستور ومن أن السيادة الكبرى فوق رؤوس الجميع للدستور الألماني. ولأهمية السيادة للدستور أو العقيدة بهذه السردية الجامعة الكبرى لمفهوم الانتماء إلى وطن اسمه ألمانيا شكل الألمان وحدة اسمها لجنة حماية أو صيانة الدستور أو بتعبير آخر لجنة تعمل على استدامة العقيدة بالسردية الألمانية الكبرى.
الخطاب وعملية تجزّأ السّرديّة الكبرى
Teun Adrianus van Dijk
السرديات الكُبَر حقل خصب وثري بالمعاني مما يجعلهن قابلات لكي يجتزأ منهن تأويلات أيدولوجية. على الرغم من أن جان فرنسوا ليوتار فطن إلى أن السرديات الكبرى تتشظى ولكني أجد أن الهولندي تيون فان ديجك (و. 1943) قد أجاد التعبير عندما شخّص قدرة السياسي من إمْتِزاق مِزْقَة من السردية الكبرى تسمى خطاب.
يعمل السياسي بتوظيف هذه المِزقة بحذاقة ماهرة لتزاحم السردية. ومع تكرير الساسة لصيغ مختلفة من ذات الخطاب عند كل مستجدة سياسية يوظف السياسي الخطاب لترسيم حدود معرفية مؤدلجة تطوق الجماعة السياسية التي يستهدفها لتستقل جماعته شيئا ما أيدلوجيا ومعرفيا عن بقية المجتمع.
ملاحظة: السياسي الناجح يطوع الخطاب بذكاء بدون أن يستفز المؤمنون بالسردية الكبرى. وفي تقديري يكاد كل خطاب سياسي سمعناه يقول:
كلنا نؤمن بالسردية الكبرى ولكن تبقى قضيتنا حول كيف يكون إيماننا به؟ وكيف نحقق إيماننا به على اكمل وجه؟ فليس السردية الكبرى بل كيف نحقق السردية مايشغل حزبنا، جماعتنا.
عند المستوى الخطابي يجد العربي أنه مرحب به أو غير مرحب بحه، في حين أن العربي يجد الأمان عند مستوى السردية الكبرى أو عند مستوى الدستور، عندما يكون هو وغيره يعاملون كأسنان المشط بسواسية تامة.
مرة أخرى عند مستوى الخطاب تجد في خطابات بعض الأحزاب أن العربي ينمّط على أنه لا يفهم وليس بقابل للانضباط تحت الدستور ومن أنه جامح لا يأتمر بأمرة القانون، ويستاق الساسة أدلتهم من ممارسات بعض المنحرفين والمجرمين العرب في ألمانيا (والشر على أنه أمر بغيض لكنه وللأسف أمر لا تخلو منه ثقافات العرب أو أية ثقافة بشرية أخرى) لتأييد خطابهم السياسي الرافض لتسهيل احتضان العرب في ألمانيا.
في حين تجد في خطابات بعض الأحزاب الأخرى أن العربي ينمّط بشكل عام على أنه فرد منتج ويمتلك جينات تحمل نسبة ذكاء فوق المعدل ومن أن توطين العربي في ألمانيا يلقح الحضارة الألمانية بطُرقِه التفكيرية الإبداعية، منتجا صيغ غير تلك المألوفة في ألمانيا، مما يساهم في تطور ألمانيا؛ صناعيا وابتكاريا وانتاجيا وخدماتيا لتواصل تنافسيتها في أوروبا وفي بقية العالم.
وبين هذا الخطاب اليميني والآخر اليساري تولد خطابات شتى لتملأ فراغات يحتاج إليها الساسة لتبرير زعاماتهم وأحزابهم.
المخيّلة تنتج ألمانيا بعدد أنفس الألمان
Benedict Richard O’Gorman Anderson
منذ ما نشر بينيديكت ريتشارد أندرسون (ت. 2015) كتابه ذائع الصيت “مجتمعات مُتَخيّلة”
Imaginierte Gemeinschaften
في عام 1983 أقام حجة قوية مفادها أنه لا وجود حقيقي لأي مجتمع/وطن إلا كمتخيلة. ومن خلال المتخيلة نتخيل المجتمع/الوطن في حين أنه ليس بالضرورة أن (جلّ أو بعض) المجتمع/الوطن موجود كما نتخيله. هكذا فإننا كمقيمين جدد في ألمانيا لا نختلف عن المقيمين القدماء في إننا جميعا نتخيل ما هو المجتمع الألماني وأننا جميعا شركاء خوض تجربة “الوطنية” من خلال “التكامل-اندماجية” فيما نتخيله!
جريان المخايل في آلية تخيلاتنا عملية فردية فكما قال المتصوفة قديما أن التصوف بعدد الأنفس فإني أيضا أكاد أجزم أن تخيل ألمانيا بعدد مخيلات المقيمين القدماء والجدد فوق ترابها.
لكن الخطاب السياسي لا يناسبه أطروحة أندرسون لذلك تجد السياسي يوهم أتباعه أن المُتَخَيّلات حقيقة وليست بأوهام. فيسعى السياسي الى المكر برفض أن الوطن متخيلة وبرفض أن المُتَخَيّلات أمر فردي وذلك بتكراره على مسامع أتباعه بأنه واقع يشاهده الجميع. بهذه المراوغة الماكرة الفاسدة يفسد السياسي جمالية الفردية التي يتمتع بها المجتمع الغربي وخصوصا الألماني. ولكن ليس كل فرد تنطلي عليه هذه الأطروحة الماكرة ويرفض أن تكون مخايله ملك أحد سواه.
في أي “ألمانيا” أخوض “التكامل-اندماجية”؟
نحن موجودون فوق التراب الألماني الذي فتحت سرديته الكبرى ذراعيها لنا.
نحن موجودون فوق التراب الألماني الذي فتحت بعض خطاباته السياسية أذرعها لنا.
السرد والخطاب لا نملك تأثيرا واضحا عليهما. ما نملك هو مخيلتنا وعلينا أن نثري متخيلاتنا من خلال رؤوس أقلام ذات عناوين جميلة لنصنع منها مواضيع لهويتنا الذاتية.
“التكامل–اندماجية“ الناجح في تقديري هو ذلك المشروع الذي يبدأ في مخيلاتنا. ما نحتاج إليه هو ضخ الإيجابية والتفائلية والأمل في مخايلنا لتثمر متخيلات إيجابية. نحتاج أن نتخيل أننا قوم يقدمون العذر لمن لا يعرف أننا بالجملة أقوام طيبون. علينا أن نتخيل أنه بخلق رصيد من مواقفنا الإيجابية سيبدل صورتنا النمطية إلى الأفضل. علينا أن نتخيل أننا نطمح بامتلاك منزل، وقبله علينا أن نفوز بعمل. علينا أن نتخيل بأننا نصبو إلى الحب والزواج ومن فتح أسرة والإنجاب ومن ثم تربية أطفالنا هنا على أكمل وجه.
كل هذه الإيجابيات تجعل مخايلنا خصبة.
إن المتخيلة الإيجابية تزودنا بالطاقة الإيجابية وهذه الطاقة مع الوقت تتحول إلى جزء من “هويتنا “التكامل–اندماجية“ ” هوية بنّائية تخدم مصلحتنا، وتخدم مصلحة المجتمع، وتخدم مصلحة الدستور وتخدم هذا التراب الألماني الغالي الذي نعيش فوقه.