تهنِئة أمٍ من غياهبِ المنافِي
هي تلوّح بيدِها اليُمنى لي أن الله سيرعَاك، وحسبي وحَسبُك فيمن أعلن سَاعةَ الفطام يا ولدي، لتمسَح باليُسرى ما اعتصره فُؤادها
أشواق صوريا
إجحافٌ هُو بحقّ من قِيلَ أنّ الجنّة تحت أقدامهَا، و أن تكرّمها بيومٍ واحدٍ وتقول أنّه عِيدُها، إجحافٌ يتملّكني إذا مَا استَحضرتُ طيفَ والدَتي بالمَنفى، إجحافٌ بحقّ من تفصِلنِي عَنهَا مُدُنٌ تضربِ بعمقِ التَاريخ مِثلها قارّاتٌ وآلاف الأميَال. تَصريحَاتٌ مختُومةٌ بعودَة بين كَنفي قدرٍ أعرَج، لا هِي بَاتت تعلَمُ سَاعتَهُ، ولا أَنا، غيرَ وعودٍ باليَةٍ أقتطِع تذَاكِرها في كلّ اتصالٍ يجمَعنا، أستمعُ فيهِ لصوتِها، أتواترُ بين ثناياه أنّ اللقاءَ قد باتَ وشيكًا يا حُلوتي، و لو كِلينَا يَعلَمُ أن هَذا لن يَحدُث اللحظة، لتضحَك من صميمِ وجعَها، مُحاولَةً إخفاء حشرَجة صوتِها، واغرورَاق عينَيها بالمِلح الشّاكي أن كُفّ عن مُغازَلتي، وويحَك؛ فمن يُغازل ياطِفلي هُنّ اليَافِعاتُ الفَاتِناتُ وليسَت عجُوزًا مِثلي قَد بَلَغت من العُمر عَتيّا.
حُلوتي لا تَعلمُ أنّني أرى نُدف الثلج تلكَ وهي تَغزو شَعرها جَمالا، يفقُد العاشِق فيمَا عَشق عَقله، فيعذّب لبِعدِها وما مِن مُعذّبٍ بعيدٍ إلا واستُعذَب، وأن مَلامِحها الذّابلة وتَقاسِيم وجهِها التي ارتَسمت بِمحاذاةِ عينَيها المتورّمتانِ من شدّة السيلِ المنهمِر على الخدّ اللجينِ إذا ما باغتَتها صُوري، أو التَقت بطيفِي بالأحياء والشوارع، أو نادى أحدٌ ما باسمِي وهيَ تبتاعُ أغراض الطّبخ وحاجيات البيت كَكلّ سيّدة، أو حِينَ تجهز أكلتي المُفضّلة ولم أكن قُبالتَها أتشاحَن رفقة إخوتِي؛ أنّها طبخت لأجلي فقط لِأنّها تَعلمُ شدّة حبّي لها أصبحت تُحدّثنِي تِلك الفاتِنة التي ترَكتها منذُ سنَواتٍ متكئةً على طرفِ الباب الخارجيّ لمنزلنا ذاتَ أمسيةٍ
وهي تلوّح بيدِها اليُمنى لي أن الله سيرعَاك، وحسبي وحَسبُك فيمن أعلن سَاعةَ الفطام يا ولدي، لتمسَح باليُسرى ما اعتصره فُؤادها المكلوم؛ في كلّ اتصالٍ عَن آلامِ المَفاصِل المُزمِنة، عن إعيَائِها الشّديد، ونوبات القلب الحادّة التي أصبحت تُلازِمها، تأفّفها الشديدِ من الصّراخِ الذي يُحدثه الفتية الصّغار كلّ أمسيةٍ بالحارة، وأن إصّيص صبّارتها قد كُسر لما رمى هؤلاء المجانينُ الكرة. تَقولُ أنّها توعّدتهم أنك ستضرِبهم ما إن تأتِ، عن حديثهَا مع نسوةِ الحارة الشّعبية، وارتِشافهَا للقهوة رفقتَهنّ أمسية كلّ جمعةٍ أنسي ومؤنِستي
لا تَعلمُ كم أنَا شاكِر لهؤلاءِ الفتيةِ الصّغار الذين لم تُصبح تطقيهم، وتحدّثني في كلّ اتّصالٍ عنهم، وأنّني لن أضربَ واحدا منهم إذا مَارجعت يومًا؛ وحدَهم الآن من يُنسونَها هول فقدِها. وأن توعّدها لهم يزرَع في كَيانِها الأمل كزهرة الصّبار تِلك التي كُسر أصيصُها ولازالَت تُقاوم، فالتشظي لا يقتلُ بقدر مقاومَتِك إيّاه، ولو أنّ الندوب ستظل مقيمَة فيك لا نُزوح ولاهجرانَ يكتسيهَا جَميلَتي لم تَكن تعلَمُ أو كَما يخيّل لي دَومًا أنّني أجهشُ بالبُكاء فور إغلاقِي للخطّ، أجهِشُ كما الأطفال ولو أنّ مَظهري يتوجّب عليهِ أن يُوحي بالصّمود والاتزانِ أكثَر،
أبكِي لشوقِها، لكلّ ذكرى تحرّضني على الاتيانِ بطيفِها، سَاعة عيدِ ميلادي الذّي كانَ آخر احتفالٍ لي فيهِ معها وهِي تبلغُ من العمرِ خمسينَ عامًا، أبكِي من هَول الثقوب التي تخلّلتني وأنَا بعيدٌ عن حجرها كغريقٍ يطلبُ الخلاص من موجِ التهجير الذي طَاله من بلدِه مكرهًا لا مخيّرا. كَيفَ لكم أن تخصّصوا يومًا واحدًا لها، وما غيرُها قد تجرّع هول هذَا المُصابِ؛ لذا كلّ يومٍ وأنتِ سيدَتي، حلوتي وفاتنتِي، سندِي و ملهمَتي، معلّمتي و والدَتي.
برافو
كل الحب والتقدير إلك و للي قدمتيه
الله يرحما ويجعل مثواها الجنة♥️