اللاجئ رقم واحد…
بين تنهيدة وزفير أعلم ما حل بي كشخصٍ مسرطن ينام ليفيق بكذبة أصيب بها فَيحلم بواقعه ،وبعد الاستيقاظ بعشرة ثواني هادئة تعود الحالة الميؤوسة منها.
في بلادنا كانوا يطلقون علينا تسمية “أجانب” ويضهر سخطنا من شرارة أعيننا و انفعالاتنا على هذه التسمية، لم نكن نعرف حينها أننا في نفس الصف الأمريكي أو الأوربي بشكل عام فكلانا “أجنبي”.
هنا ختلف الأمر، كل صباح أستيقظ في ساعات متفاوتة من بعد الظهر”طبعاً” اظن نفسي في حلمٍ لكن لا البث ان استيقظ لاجد نفسي في قريتي
لا أتذكر كم من الجمع خرجتُ مع الذين لديهم مطالب، أو في أية جمعة كنت أو لم أكن. فأغلب الذين خرجوا أراهم لاجئين.
جلست مع عقول لن أحدثكم عنهم لأسباب تتعلق بنفسيتهم المتدمرة سواء بسبب البعد أو الرغبة أو الشوق أو الفقدان، فمن منا لم يفقد أو يهرب أو يُبعد.
أتذكر ان”دلو” كان أكثر ذكاء منا وأكثر خوفاً في الظهور ، سجائره وقهوته وشايه في وحدته كانت الأقرب اليه في وحدته، بالرغم من تمسكه بقضيته فسياسة المستقبل و سبب الأزمة و ماذا سيحل غداً
كان الأسرع في تسخين الجبنة مع الخبز وإحضار الشاي.
الظريف في الأمر شعره الأبيض وصغر عمره وضحكته التي تغير مسار تفكيرنا المظلم
كان خائفاً على سكنهِ وبقاءه . فمنذ أن وعده ” أبو شيرو” أن يجلب له الاقامة كان “دلو” يستيقظ مبكراً بسبب آلة سجائره ونسيانه في أن يسد الباب خلفه، أبو سليم أخيرا يتكلم مع القاضي ليسرع في معاملة الإقامة هنا
أما أنا بين شهيق وزفير لا أعلم ما حل بي كشخصٍ مسرطن ينام ليفيق بكذبة أصيب بها فَيحلم بواقعه ،وبعد الاستيقاظ بعشرة ثواني هادئة تعود الحالة الميؤوس منها.
لستُ على ما يرام.
– استيقظ أرجوك ، أبو شيرو…
وبسرعة الصاعقة و بجسده الثقيل يرفع رأسه للأمام دون أن يحرك رمشه ،
– مابك؟َ
– لا أعلم هناك دم في حلقي ، أرجوك
– نم ، لا يوجد شيء يستحضر كل هذا الخوف. يتسطح بعد أن أتعبه ثقل جسده ونعاسه، وربما كان نائماً وهو يتكلم معي.
توقفت عن التفكير قرابة ساعة كاملة حملتُ “محارم ” ملطخة بالدم ورحتُ ابحثُ عن من يساعدني
أظن “دلو “يفكر في نفسه الآن وهو يشاهدني ، لا اتذكر شيئاً كهذا، مع إشارات التعجب ولماذا.
هذه الحادثة كانت قبل حضورك يا ” دلو” ولكنها متعلقة كغيمة على وشك أن تغمر سطح الرأس بالفيضانات لمجرد التفكير .
أنظروا أنا مريض ، أتكلم باللغة التركية لحارس أمن تركي يترجم للألمان،
– دعني أرى…
بات الخوف يظهر تصاعدياً ويترجم.
– Er ist krank mit TB أنه مريض بمرض السل
نظرات التعجب والاستفهام واضحة على وجه الحراس ، قد شاهدوا الدم بعد أن أشعلوا ” البيل”
وأخذت الفتاة تتصل بالإسعاف وطلبوا مني الرجوع إلى الغرفة بعد أن أعطيتهم بطاقة مكتوبة عليها اسمي وصورتي .
بعد عشر دقائق تأتي السيارة،
الكثير من اللاجئين متواجدين بالقرب من غرفتي يتساءلون أيضاً ماذا حصل؟!
بعد بضع دقائق من الكلام دخلوني السيارة وجلستُ وبدأوا بالأسئلة الغريبة باللغة الأنكليزية ،
وضعوا الكمام على فمي ،
طلبت منهم مترجم عربي أو كردي أو تركي،
فالأنكليزية ضعيفة كما الألمانية لدي :
– هل كنت مع أحد وهو يعطس دماً؟
– هل ضربك أحداً في خاصرتك؟
– هل شاهدت أحداً مريضاً؟
– منذ متى وأنت تنزف ….؟
وغيرها لم أعد أتذكر
أشرح لهم بلغة الإشارة وبعض المفردات الإنكليزية والألمانية.
السيارة تقودني إلى المشفى وأنا متردد في أن أتصل بأقربائي أم لا ، هل أفتح الواتس اب وأراسله الى صديقتي ؟
أشعر ببرد شديد ، وعرق يغطي وجهي وصدري .
أنها علامات المرض ، يناقشني الفكر اللعين.
توقفت السيارة، استقبلني خمسة أو ستة أشخاص ، ثيابهم لم أعد أتذكرها ، أشارت إحدى الممرضات بأصبعها ، كي استلقي على السرير ،
استحضرني دوار خفيف نظرات الطبيب الذي كان يتحدث معي في السيارة وهو يشرح للدكتورالآخر وينظر ويشير الي .كانت الساعة قرابة الثالثة ونصف صباحا، جاءت الممرضة لتسحب مني الدم، وضعت كمامة جديدة على فمها وبدأت هي أيضاً اعادة الأسئلة المزعجة. جاء ممرض آخر ليضع ” السيروم” وخرج.
بقيت خمس دقايق انا و جسدي الميت وحده
فكرت أن أفتش في الوتس اب لأرى من مستيقظ من أقربائي في ألمانيا بهذا الوقت،
أبنة عمي ” سيرو” متصلة !
راسلتها،
– سيرو ارجوكي ضروري اتصلي بي،
– سيرو وبسرعة تتصل مكالمة ، احسست بارتعابها .
– كيفك…. قاطعتها بشدة،
– سيرو أخبري والدك وعمي ، أنني موجود في المشفى وحالتي حرجة ولكن ارجوكي لا تخبرو والديّ ،
– مابكَ؟
وفي تلك اللحظه يدخل الدكتور، خيّل لي انني في المشهد الأخير في مسرحية حيث يظهر جميع الممثلين للانحناء لإنهاء المشهد.
طلبت من سيرو أن تفهم منه، أعطيته الموبايل وبدأ الحديث لا أعرف بأي لغة ( Deutsch, deutsch) فهم مني وبدأ بالتحدث .
سيرو تتقن الالمانية بشكل ممتاز فهي تساعد بالترجمة في الكنيسة القريبة من منزلها .
استمرت المكالمة بعضاً من الوقت وعندما انتهى اعطاني الموبايل،
– حسين ، الدكتور اخذ رقمي سيتصل بي أن حدث أية مضاعفات، لا تخاف .
طلبت مني أن لا أخاف، كيف لا اخاف وهي تدل على شيء مؤكد ،
أرتجف برداً و أرتجف
دخلت الممرضة،
صرتُ أردد
– kalt, kalt برد برد
قامت بتشغيل المكيف ، وأنا أغطي صدري ويدي بالمعطف الخاص بي وارتجف.
لا أتذكر كم مرة قمت بالدعاء.
أفكر بوالديّ أكثر من أن أفكر بمصيري المنتهي،
صرتُ أتخيل القمح والنور الساطع ونسمات هواء خفيفة ورائحة طيبة تضرب أنفاسي ، كما لو انه آخر مشهد لبطلٍ يموت ويرى النور، – تخيلتها قسراً.
أيقظتني يداً ثقيلةً تنزع الكمامة عن فمي، كانت الدكتورة،
ابتسمت بالرغم انني جعلت نسبة التوتر والقلق يملئ المكان في هذا الصباح،
قامت بفك “السيروم” واعطتني أوراقاً لم أفهمها إلا مؤخراً وكانت التحاليل…
Go Home “اذهب الى المنزل
اجبت: home, home البيت
– yes, yes. نعم نعم ثم ابتسمت
ما حصل لي من شعور حينها كما الولادة الأولى،
اخذتُ بالمشي مسرعاً باتجاه القطار ، كان الصباح جميلاً كصباحات قريتي، والناس بدأوا بالذهاب الى العمل من خلال القطارات، لكنهم كانوا ينظرون لي بتعجب وابتسامات غريبة ، ربما كان شعري أو صوتي الخشن وأنا أغني وربما كان”الشورت”الذي كنت ارتديه في هذا الجو القارس لكنني لم أهتم ،
ابتمستُ وأكملت الغناء.