الكرنفال الألماني والبحث عن المفقود
يمثّل الكرنفال الذي تشهده في ألمانيا في كل شتاء من كل عام تقليدا أوروبيا يمتد من العصور القديمة الى يومنا الراهن.
يحمل الكرنفال جذور ثقافية أوروبية فكاهية شعبية تبحث عن فرص التعبير النقدي للقضايا التي تهم المشاركين في الكرنفال.
لم يكن صعبا على ذهني رصد إصرار الألمان (وكل الأوروبيين) على مبدأ إشاعة روح الكرنفال، ومن الإصرار
على جلب الأطفال معهم لغرز حب الكرنفال للأجيال التالية لكي يستمر التقليد الذي نشأ في عصر أزمنة
الوثنيات ثم الى أزمنة الديانات ثم الى أزمنة الأيدولوجيات ثم الى أزمنة العولميات وما بعد الحداثيات.
تكرار مشاركتي في كرنفالات مدينة كوتبس على مر الأعوام تعزز لدي أن الكرنفال تخم هامشي، و نقطة تتلاقى فيه الحياة مع الفن.
عندما يتحول الى تعبير لفن شعبي يتحدث عن هموم معاشاته. الكرنفال ليس مسرح أوبرا يلعب فيه ممثلين
مهنين أدوار مستوحاة من نص مكتوب مسبقا، بل أن الكرنفال حراك جماعي يلعب أدواره أبناء وبنات الحارة والمحلية ممن لا يملكون أي خلفية مسرحية ليكونوا في ذات اللحظة جمهور الكرنفال ويكونوا في ذات الأوان الممثلين الفاعلين في الكرنفال.
كل شخص أو أسرة أتت بكامل حريتها لتمارس دور فني لتنتقد واقعها المعاش أو لتعيش خيال تتمناه. كل
كرنفالي يشارك بشكل فني لإشهار رؤيته للحياة بين أفراد مدينته بدون تنسيق مع أي شخص أو أسرة أخرى.
المحصلة للمشهد الكرنفالي المرئي أننا نرى المئات لتمثيليات مختلفة من قصص الحياة وتعابير عن مواقف
ترجمت في أطار فن شعبي فكاهي. مسرحيات وشخصيات وصور وملابس غير منسقة غير منظمة كأنما مسرح الكرنفال مبعثر لا يلعب أبطاله مسرحيته بناء على سرد لقصة واحدة.
مشهد يحيل تنوعات وتناسق وشذوذ وغرابة ومقبولات ومرفوضات كافة أشكال الحياة الى تعابير فنية تتجسد
أمامك في طرقات المدينة. كأنك من خلال هذه التّجسّدات الفنية تستقبل أراء السكان وتسمع أصوات الناس بتعدد مشاربهم وتنوع ثقافاتهم وكثرة تناقضاتهم يلعبون لنا سمفونية الحياة.
فكل فرد عضو في سمفونية الحياة وفقط من خلال تعدد الأصوات المختلفة تنتج لنا الحياة نغمات سمفونية
جميلة نطرب لها نعم أنها الكاكوفونيك بليفوني ” cacophonic polyphony ” الجميلة كما يسميها الناقد الروسي ميخائيل باختين (1895 ـ 1975م).
إن فكرة الكرنفال هو محاولة إنسانية قديمة لكسر الرؤية الأحادية للخروج من براثين الأيدولوجية الواحدة، للخروج من فكرة الثقافة الواحدة.
الكرنفال هو ورشة مجتمعية لتدريب أفراد المجتمع على رؤية حقيقة الحياة، ولتلمس واقعها كوجود قائم على
عدة مباني ثقافية. أن الكرنفال فكرة شعبية نبيلة لتسويق التعددية الثقافية بين أفراد المجتمع الألماني – الأوروبي.
يرى ميخائيل باختين أعياد الكرنفال مناسبة لغسل ذواتنا مما رسب بها طوال أشهر العام المنفرط من بقايا
أيدولوجيات منفرة وفروقات مجتمعية وتصدعات في العلاقات البشرية وتفكك المباني الأسرية.
أنه مناسبة للخروج من ذواتنا بتمثيل ذوات ليست بنحن، فالتاجر يلبس لباس الفقير والفقير يلبس ملابس
الثري المثقف يلبس ملابس العامي والعامي يلبس ملابس البروفسور كل ذلك من خلال فن ” Grotesque ”
وهو فن يجسد صور مبالغ في أشكالها وملامحها وأحجامها ففي المبالغة يزداد حظ تثبيت الفكرة في أذهان مرتادي الكرنفال.
الكرنفال في ألمانيا علامة على وعي المحليات بمحيطها وواقعها. أنه علامة أن الشعب الألماني ذو حراك
مجتمعي وثقافي نشط. الكرنفال أشبه ما يكون بندوة نقاش تطرح عدة أراء نقدية لما يجري من مستجدات
وتحديات معاشية ومحلية وإقليمية وكونية. أن الكرنفال علامة حب للحياة وأي محاول لتعطيل الكرنفال وتخويف رواده هو عمل يستهدف هذا الشغف الإيجابي للحياة وهو أمر مرفوض وسيفشل، لأن الكرنفال تاريخ و هوية
متجذرة في بنية الوعي الألماني ويصعب شطبها من الذاكرة.