الفكر الإسلامي بين السببيّة الكلاميّة والعلة الفقهيّة وإنتاج الحتميّات و الإحتمالات
الفكر الإسلامي ما فترت تتوالى مُراكماته المعرفية بفعل مباحث الكلام والفقه التي أثرت قضاياه وعمّقت مشاغله.
د. محمد الزّكري القضاعي
الفكر الإسلامي ما فترت تتوالى مُراكماته المعرفية بفعل مباحث الكلام والفقه التي أثرت قضاياه وعمّقت مشاغله.
من قضايا علم الكلام موضوع ”السببية“، فقد تأثر علم الكلام السالف والآني عند قرائته للآيات:
”ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ“ (11) سورة فصلت.
هكذا يعلم المتكلمون أن الله أخضع الوجود المادي منذ نشئته الأولى على طاعته.
والمادة تطيع الله من خلال خضوعها لسنن لا تتجاوزه. فهي تتمد وتنكمش وتتبخر وتنضغط وتتفجر وتتحول وتتطاير والخ بدقة عند وقوع المسببات المناسبة.
وتيقن المتكلمون أن هذه السنن ثابتة مصداقا لقوله تعالى
”…وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا“ 62)) سورة الأحزاب.
ثم انتبهوا الى وجود عدة علاقات من الأسباب عندما قرؤوا الآيات:
” أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ“ ( 10) سورة صاد.
وقوله تعالى:
”وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ۚ وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ۚ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ“ (37) سورة غافر.
ثم قرؤوا قوله تعالى:
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) سورة الزمر.
فعلموا أنهم يخوضون بحوث تقديرية لفهم العلاقات بين المسببات والأسباب.
ومن أنهم عند إماطتهم اللثام عن العلاقات بين السنن الكونية فإن الإحتمالات الكثيرة واردة.
فانتبهوا الى وجود سنن كونية تعمل من خلال سلسلة من الأسباب والمُسَبَّبات الدنيا والعليا، تتمظهر من خلال علاقات ما.
كما أعطوا مجال لغياب المزيد من المعلومات لكي يستثنوا مثلا وقوع اللا-حرق عند وقوع إنسان (إبراهيم ص) في النار.
فقال أهل الكلام أن ما بين السبب والمسبب ليست علاقة (ضرورية لا تختلف)، وإنما يَروْنها علاقة (اقترانية عادية) قابلة أن لا تنتظم.
هكذا يعمل المتكلم على ترك فرصة لما يبدو (الآن) سببا وما يبدو (الآن) مسببا أن يفهم على غرار آخر عند تطور المعرفة. هكذا تطورت نظرية ”الإحتمالات“ وذلك من خلال التسليم بقصور العقل البشري عن إدراك طبيعة الأشياء التي تحدث في الكون.
الفقية لم يستخدم مفردة السبب والمسبب بل إستخدم مفردة العلة وبحث عن حتمية تأثير وعلاقات العلة في معلولها.
فكرة ”العليّة“ قائمة على معتقد شبه يقيني حتمي لدى الفقيه تقتضي تأثير العلة في معلولها.
فالسببية عند أهل الكلام إحتمالات ليست ذات علاقات ضرورية بل هي شبكة، ولشدة التجدل والتداخل بين خيوط كثيرة جدا فلا يحسن للمتكلم الجزم بحتمية وجود العلاقة بين الأسباب والمسببات وان بدت كذلك للوهلة الأولى.
هكذا يكون مجرد إستخدام لفظة ”المسبب“ فإنها كأنما تقول :أن المتحدث يرى بالإحتمالية.
في حين أن مجرد إستخدام لفظة ”العلة“ فإنها كأنما تقول: أن المتحدث يقطع في يقينه بوجود علاقة حتمية وثابتة وضرورية بين العلة ومعلولها.
فالبحث في السببيّات يعني إننا في مرحلة أولى من البحث في علاقات معقدة. وبعد أن تتكون لدينا قناعات وتجارب تؤكد العلاقة بين الف وياء عندها يمكن إستخدام لفظة علة ومعلول.