العلم شرط التوحيد “فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله”
اشتغالي في قضايا علم الكلام وأصول الدين قادني الى الاستماع الى حوار يوتيوبي بين الشيخ عبدالرحمن دمشقية (سوري) والشيخ سعيد الصرفندي (فلسطيني).
اشتغالي في قضايا علم الكلام وأصول الدين قادني الى الاستماع الى حوار يوتيوبي بين الشيخ عبدالرحمن دمشقية (سوري) والشيخ سعيد الصرفندي (فلسطيني).
رابط اللقاء بعنوان “مناظرة الشيخ دمشقية مع الأشعري الشيخ سعيد الصرفندي: هل الأشاعرة هم أهل السنة”
استنكر في هذا اللقاء ع. الدمشقية (بما معناه) أن يكون أسلوب الرسول ص قائم على مقدمات علمية لإقناع أهل زمانه باعتناق مقالة “لا إله إلا الله”، ويؤسس الشيخ دمشقية قناعته هذه على افتراضية مفادها أن مستوى الناس العلمي في زمن الرسول (ص) ضحل جدا، عليه رفض هذه الفكرة. في حين التزم الشيخ س. الصرفندي بأهمية المقدمات العلمية. وبيّن أن المقدمات العلمية أساسية لكنها معيارية متفاوتة بنسبة وتناسب على مستوى الوعي العلمي للمتلقي.
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله
في خضم هذا البحث عدت الى القرآن الكريم لكي أجد أجوبة حول هذا الأمر. فوجدتني أمام أهم آية ربطت بين العلم والإقرار بوحدانية الله تعالى وذلك في قوله الله تعالى : فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله (محمد:19) . بعد ذلك وجدت أن كافة الجماعات الكلامية القديمة (المعتزلة، الحنابلة، الأشاعرة) جعلت أول شرط من شروط الدخول في مقالة “لا إله إلا الله” هو العلم.
لكنهم إختلفوا في ما هو “العلم” وما هو معياره.
عندما كنت صبيا يافعا كنت أذهب الى الحلق الحنبلية التقليدية. كان شيخنا يقول إنه ليس مقبول أن يقول الإنسان إنني مسلم أو مؤمن لأني أبي مسلم أو مؤمن. لابد من خوض اعتناق الإسلام والإيمان عن قناعة فردية.
“العلم” متحرك، سائل يجري، غير ثابت
إذا كان الأمر كذلك فلا بد من توفير المقدمات العلمية المناسبة لكل زمان ومكان لكي يتسنى لكل إنسان من أن يتعرف على “العلم” المناسب الذي يؤهله للقول ب لا إله إلا الله. فعلم زماننا يختلف كثيرا عن علوم ، مثلا، أزمنة الصحابة أوأزمنة ما قبل 200 أو 500 سنة. واضح أن “العلم” غير ثابت بل متحرك ليس فقط زمانيا بل فرديا.
فالإنسان في مطلع إقباله على خوض مقالة “لا إله إلا الله” قد يحتاج الى علم معين يسعفه للدخول إيجابيا الى هذه المقالة. ولكن مع نمو ونضوج وتطور آليات عمل عقله ستجتاح عقله تساؤلات معقدة، وتستجد عليه قضايا طارئة في محاور معينة حول مقالة “لا إله إلا الله”، والتي قد لا يمتلك الإنسان العلم المطلوب لحسم ما طريء عليه من تساؤلات. هذا يعني أن على الإنسان أن يطلب “العلم” المناسب لمرحلته ليكون على إرتباط علمي وثيق مع “لا إله إلا الله” مع تطور عقله وتقدمه.
الشك:
انتبه الإمام أبو حامد الغزالي (ت. 505 هـ) في كتابه المنقذ من الضلال أن الرسول ص قال في البخاري ومسلم:
“نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحي الموتى قال أو لم تؤمن قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي”
فهذا نبي الله إبراهيم بعد أن أسعفته علومه الأساسية الى التوصل الى “لا إله إلا الله” هذا هو بعد فترة من الزمن لم يفهم محور معين حول “لا إله إلا الله” ألا وهو كيف يعيد الله إحياء المخلوقات بعد أن تموت.
فخاض عقل إبراهيم هذه التساؤلات ومن ثم توصل الى الإجابة على تساؤله في هذا المحور تحديدا.
الغزالي فطن الى أهمية “الشك” الإيجابي كما سمّاه الرسول ص. فالغزالي يرى أن الرسول ص. حاول جادا أن يثبت في ثقافتنا الإسلامية آلية التشكيك الإيجابية بالمسلمات العلمية من أجل مراجعة العلوم السابقة ومن أجل إنتاج علوم جديده.
ملاحظة:
توقف الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت)، عند منهج الغزالي بتفعيل آلية الشك الإيجابي للوصول إلى اليقين في كتاب الغزالي .حيث يقول الباحث التونسي الراحل عثمان الكعاك أنه عثر على نسخة من كتاب المنقذ من الضلال للإمام الغزالي، مترجمة إلى اللاتينية، في مكتبة ديكارت الخاصة بمتحفه في باريس، وفي إحدى صفحاتها إشارة بالأحمر تحت عبارة الغزالي الشهيرة “الشك أولى مراتب اليقين”، وعليها حاشية بخط يد ديكارت بعبارة “تُنقل إلى منهجنا”.
العقائد المعتزلية، الحنبلية الأشاعرية
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله (محمد:19)هذه الآية الكريمة تؤسس أيضا لعلم آخر وهو علم العقيدة والتوحيد. هذا العلم مرتبط بتخيل الله تعالى من خلال أسمائه وصفاته، جل جلاله، تخيلا غير مخل بما ورد في القرآن عن ذات الله تعالى.
فهناك مجموعة كلامية تنزه الله تعالى من كل مشترك بين الله تعالى والإنسان من عين ويد ووجه واستواء فتقول بالمجاز. فتحيل المفردة من معناها الجوارحي الى معناها المجازي.
وهناك في الطرف الآخر فرق كلامية تقترب من الإقرار التشبيهي حيث أنها تتخيل أن لله جوارح من مثل عين ويد ووجه وله إستواء لكن لا نعرف تحديدا دلالاتها الجوارحية وترفض أن يكون في اللغة مجازا.
من العقيدة بالله الى تقدير الله
يبدو لي أن الزمن العلمي الذي نحن فيه تجاوز المقدمات العلمية التي كانت متاحة في أزمنة جماعات الكلام المعتزلية والحنبلية والأشعرية. إننا حتما في جو علمي يتيح لنا أن نكون في مرحلة ما بعد الإعتزال وما بعد الحنبلية وما بعد الأشعرية.
يبدو لي أن كل واحد فينا يمتلك المقدمات العلمية لكي يكون متكلما كلاما في فهم العقيدة والتوحيد يناسب فهمه العلمي، بشرط أن لا يخرج عن القرآن الكريم.
ان لكل إنسان إيمانه الخاصة به لله يناسب فهمه. إنه إيمان لا يكون بنفس الجرعة والفهم والتصور والتخيل مع أي مؤمن آخر. بل ان لكل إنسان تجربته التي تجعله يقدر الله بطريقته الخاصة به.
كلنا متكلمون بمعنى علم الكلام. لا يوجد مؤمنا من هو ليس ب متكلم. فالعقيدة تعني في نهاية المطاف “كلام”.
كل انسان يتخيل “الله” تعالى ….بل إن الله تعالى أخبرنا بذلك
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ….(67) سورة الزمر.
فما هو التقدير؟ فلو قلت يا فلان هل تقدر لي سعر المنزل؟
يكون معنى التقدير أنه من جنس التخمين المدروس عن دراية علمية وتجارب ميدانية في تقدير أسعار المنازل.
إذا كل ما يمكن أن نمارسه من عملية تقدير لله سواء من خلال عقل الإعتزال أو عقل الحنابلة أو عقل الأشاعرة أو من خلال ما بعد الإعتزال أو ما بعد الحنابلة أو ما بعد الأشاعرة هو عملية تقدرية في تقدرية لا تبلغ علم عين ذات الله تعالى.
تقدير الله من جنس القياس الذي يتطور بفعل خصوبة الخيال الورع عندما يتلاطم مع امواج الممارسة الدينية مع النص الديني….
كل فهم لله هو عقيدة ، عليه هو تقدير لله، عليه هو من الكلام.
فقط الصالحون من يصلوا الى شواطئ الحقيقة. وهم من يقدرون الله حق قدره.
حق التقدير و عين التقدير:
وحق التقدير لا يعني عين التقدير. فلا يعلم عين ذات الله الا الله.
لذلك انفرد الله باسمه العظيم “المؤمن” . فهو في ذاته العليّة المؤمن المطلق والعالم الوحيد بعين بذاته.
وما ايماننا نحن كبشر سوي انعكاسا لتقديرنا ل الله. وهو تقدير يقع بين ما هو دون حق التقدير وبين ما هو حق التقدير ولكنه لا يصل رتبة عين التقدير.
ملاحظة:
العينية اقرب شيء مصداقا لقولة تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا “عَيْنَ” الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ
والله أعلم
شكرا لمؤسسة آراب على هذا المنبر الثقافي
مقال رائعة تستحق القرأة
اضن ان البحث فب علم الكلام والعقيدة والتوحيد غير مجدي في هذا العصر على النحو القديم فالتفكير اليوم غير مشابه لما كان عليه في السابق حتى العقل ليس كعقل المسلم سابقا يحيرني بعض رجال الدين يتحدثون في هدا الموضوع وكانه من اساسيات الدين فلو ترك المسلم ليتدبر كتاب الله بفطرته السليمة قد يصل الي اليقين بايمان كبير وصادق واليوم فالمسلم يعلم انه لا اله الا الله ولكن عدم تدبر القران جعلها ناقصة . شكرا على المقال الرائع
شكرا للدكتور العزيز محمد الزكري. يتميز اسلوب الدكتور الزكري ببساطة الطرح وسلامة ومنطقية الافكار على الرغم من ان المواضيع التي يطرحها ويكتب فيها مرتبطة بقضايا فلسفية و أيضا متصلة بعلم الكلام. هذه القضايا بطبيعتها تتسم بصعوبة الطرح وتناول باسلوب مبسط لا يفقدها معناها الفلسفي العميق ليس بالمهمة السهلة وليس بالاسلوب الذي يجيبه كل كاتب. وقد تميز الدكتور الزكري بهذا الأسلوب في الطرح منذ بحيث يجد القارء العادي وكذلك المختص مبتغاك من جميع الافكار التي يطرحها الدكتور الزكري. اتمنى ان ارى له المزيد من المقالات في هذا الملتقى الطيب.