العالم الطبيب : ابن النفيس
عاش علاء الدين ابن النفيس بمصر «وكان رئيس أطباء مصر والشام» فى زمنٍ يعدُّ ما نعيشه اليوم «نعيماً مقيماً» بالمقارنة به، بل لا يوجد أصلاً وجه للمقارنة..
فقد عاصر ابن النفيس زمناً مصرياً هصوراً، تقلَّبت فيه الكوارثُ الكبرى وعاثت فى البلاد المفاسدُ وتعاقبت الويلاتُ.
عاش علاء الدين ابن النفيس بمصر «وكان رئيس أطباء مصر والشام» فى زمنٍ يعدُّ ما نعيشه اليوم «نعيماً مقيماً» بالمقارنة به، بل لا يوجد أصلاً وجه للمقارنة..
فقد عاصر ابن النفيس زمناً مصرياً هصوراً، تقلَّبت فيه الكوارثُ الكبرى وعاثت فى البلاد المفاسدُ وتعاقبت الويلاتُ.
كان مولد «ابن النفيس» فى قرية قرب دمشق، اسمها «القرش» سنة 607 هجرية، ودفعه سوء الأحوال بالشام إلى النـزوح نحو مصر «القاهرة» التى وصلها وهو فى العشرينيات من عمره، وظل مقيماً بها من دون أن يفارقها من بعد ذلك قَطّ، حتى توفى بالقاهرة وقد بلغ الثمانين من عمره، سنة 687 هجرية «1122ميلادية».
عاصر العلاء ابن النفيس أحداثاً جساماً، ففى زمانه مرت بمصر أهوالٌ منها الاجتياحُ المغولى للمشرق الإسلامى، وسقوط بغداد على أيديهم وهجماتهم الهمجية «سنة 656 هجرية» ثم اجتياحهم الشام وتخريبهم لها، حتى وقفوا عند حدود مصر وتفرَّق غزلهم بسبب الانقسامات الداخلية، فانهزمت مؤخرة جيشهم فى «عين جالوت»،
وصاروا فلولاً هاربة إلى المشرق الذى جاءوا منه قبلها بستين سنةً دامية. ومنها الصراعُ المرير على الحكم، وقتل المماليك الحاكمين مصر بعضهم بعضاً، فمن مصرع «عز الدين أيبك» إلى الفتك بشجر الدر، ثم تشفِّى ضُرّتها «أم على» فى مقتلها بتوزيع الوجبة التى لاتزال إلى اليوم معروفة باسمها «وقد أعدتها على عجلٍ حين وصلها خبر قتل شجر الدر»
ثم الأذى المفرط بتاريخنا السياسى على يد «قطز» الذى أقرَّ لأول مرة القاعدة الرهيبة التى ظل العسكريون يطبقونها لعدة قرون تالية، وهى قاعدة «الحكم لمن غلب» وقد اكتوى هو بنارها حين غدر به جماعةٌ من أصحابه، كان منهم «بيبرس» العنيف المهووس الذى حكم البلاد لأنه «غلب» وانتـزع السلطة انتـزاعاً.
وبالمناسبة، فقد قدم لنا ابن النفيس، بشكل غير مباشر، صورةً دقيقةً لملامح بيبرس وأخلاقه واضطراباته النفسية، فى رسالةٍ قصصيةٍ بعنوان «فاضل بن ناطق» عارض بها ابن النفيس الرسالة القصصية «حىّ بن يقظان» لابن سينا، وليست هناك أى شكوك فيما أورده ابن النفيس عن «بيبرس» مع أنه لم يصرِّح باسمه، نظراً للصلة التى جمعت بينهما؛ فقد كان ابن النفيس هو طبيبه الخاص.
ومن الويلات التى عاصرها ابن النفيس: الحملاتُ الصليبية المتكررة على سواحل الشام وشمال دلتا النيل، واحتلالهم دمياط.. ومنها خروج ملوك النوبة على سلطان القاهرة
واضطراب الأحوال بسبب الحرب «الانفصالية» فى جنوب الوادى.. والمجاعات والطواعين التى فتكت بأهل مصر حتى أكلوا القطط والكلاب وجثث الموتى ولحوم البشر الأحياء.. والغلاء الفاحش.. والفوضى الأمنية وانتشار البلطجية والشطَّار والعيَّارين «الصيَّع والحرامية».. إلخ.
لو لم أعلم أن تصانيفى تبقى بعدى عشرة آلاف سنة، ما وصعتها
العلاءابن النفيس
عكف العلاء ابن النفيس على هدفٍ وحيدٍ لحياته كلها، هو «المعرفة». وعاش حياته مخلصاً لرسالته المعرفية، ومستمسكاً بالبحث العلمى والتأليف الابتكارى، ومؤمناً بأن أعماله سوف تبقى من بعده لأمدٍ طويل.. حتى إن المؤرخين تناقلوا عبارةً خطيرةً له، يقول فيها: لو لم أعلم أن تصانيفى «مؤلفاتى» تبقى بعدى عشرة آلاف سنة، ما وضعتها.
وقد فتشت عن هذه العبارة فى آلاف الصفحات التى كتبها ابن النفيس «أغلبها مخطوطات لم تُنشر» فلم أجدها. فالظاهر أنه صرَّح بذلك شفاهةً لبعض المقرَّبين منه، فى غمرة النشوة المعرفية وتوهُّج العبقرية..
فبأىِّ معنى كان ابن النفيس عبقرياً؟ إذا سألت اليوم أحد المتعلمين عن هذا العلاَّمة المنسىّ، فقد يقول على الفور ما معناه: نعم، هو مكتشف الدورة الدموية قبل هارفى «ثم يصمت» وقد لا يقول أىَّ شىء، لأنه لا يعرف عن الرجل غير اسمه. وقد نسأل أحد المثقفين، فيقول بإيجاز ما مفاده: نعم، هو مكتشف الدورة الدموية الصغرى قبل «هارفى» بقرابة قرنين من الزمان «ثم يصمت» وقد يزيد على ذلك بعض المعلومات السطحية عن العلاء ابن النفيس.
وفى واقع الأمر، فإن فكرة دوران الدم فى الجسم هى فى الأساس اكتشافٌ سكندرىٌّ قديمٌ يعود الفضل فيه إلى «هيروفيلوس» الذى ذكر فى كتاباته أن الدم يدور فى العروق، لكنه لم يوضح كيفية هذه الدورة.
حتى جاء العلاء ابن النفيس وشرح هذه الكيفية، مسجِّلاً اكتشافه فى كتابٍ مدرسىٍّ له «كان يقرِّره على تلامذته بالقاهرة» عنوانه: شرح تشريح القانون.. أى شرح الأجزاء المتعلقة بالتشريح من كتاب ابن سينا «القانون فى الطب»،
فأوضح فيه أن الدم يدور بين القلب والرئة، كى يحمل إلى الجسم الطاقة التى يسميها «الأرواح» أو «القوى»، مشيراً بوضوح إلى أن مقصوده بها ليس «الروح» بالمعنى الدينى، وإنما الطاقة الحسية اللازمة لتسيير الجسم «وهو ما نعرفه اليوم بالأوكسجين».
وفى موسوعته الهائلة «الشامل فى الصناعة الطبية» يشرح ابن النفيس دورة الدم الكاملة فى الجسم، أى الدورة الصغرى «الرئوية»، والدورة الكبرى الموصلة بين القلب والأطراف.. ومع ذلك، فإننى أعتبر اكتشاف ابن النفيس لهاتين الدورتين «على الرغم من أهميته» هو أحد الدلائل المتواضعة على عبقرية «العلاء» العلمية .
فقد كان هذا العلامة عبقرياً ومبدعاً، ليس فقط لاكتشافاته العلمية التى يفوق بعضها «الدورة الدموية» أهميةً، وإنما للمنهجية البديعة التى كان يلتزم بها، ويشير كثيراً إليها فى أثناء مؤلفاته. كأن يقول مثلاً تلك العبارة البديعة التى بدأتُ بها روايتى الجديدة «محال» وقد رأيتها أول مرة فى مخطوطة كتابه الخطير «المختصر فى أصول علم الحديث النبوى» حيث كتب:
وأما الأخبار التى بأيدينا الآن، فإنما نتَّبعُ فيها غالبَ الظن لا العلمَ المحقَّق ، خلافاً لقومٍ .. «يقصد: مخالفةً لما قد يعتقده كثيرون».
ومن بدائع العلاء المنهجية، تلك القاعدة الذهبية التى لا أَمَلُّ ذِكْرها والتذكير بها، لإعجابى المفرط بمعانيها وصياغتها. يقول العلاء ابن النفيس:
وربما أوجب استقصاؤنا النظر عدولاً عن المشهور والمتعارف، فمن قرع سمعه خلافُ ما عهده، فلا يبادرنا بالإنكار، فذلك طيشٌ، فرُبَّ شَنِعٍ «غريب» حقٌّ، ومألوفٍ محمودٍ كاذبٌ، والحقُّ حقٌّ فى نفسه، لا لقول الناس له، ولنذكر دوماً قولهم «إذا تساوتِ الأذهانُ والهمم، فمتأخرُ كُلِّ صناعةٍ خيرٌ من متقدمها».. سؤال: لماذا لا نقرِّر هذه العبارة على الطلاب فى مدارسنا؟
وبالإضافة إلى هذه «المنهجية العامة» المتعلقة بطريقة التفكير الإنسانى «الكلى» أكد العلاء على مجموعة من القواعد المنهجية التطبيقية، منها ما يتعلق بالممارسة الطبية، حيث اعتمد على التدرُّج الوارد فى قوله:
«ينبغى ألا تعوِّد الطبيعة (قوى الجسم) الكسل، بأن تعالج كل انحرافٍ عن حال الصحة؛ وحيث يمكن العلاج بالأغذية، فلا تلجأ للأدوية. وإنّا لا نؤثر على الدواء المفرد، دواءً مركباً، لكنّا قد نُضطر إلى التركيب»..
وكان من قواعده المنهجية، ما يتعلق بضبط المفردات والاصطلاحات قبل البحث، على النحو الذى تناولته تفصيلاً فى كتابى الذى صدر منذ سنوات ، ولم يلق من القراء اهتماماً مناسباً، وكان عنوانه «إعادة اكتشاف ابن النفيس» وفيه أعدت النظر فى كثير من المعلومات الخاطئة التى طالما ردَّدها المؤرِّخون والباحثون عن «ابن النفيس»،
بما فى ذلك هذا اللقب ذاته، الذى رجَّحتُ أنه اشتهر بطريق الخطأ والخلط بين «علاء الدين علىّ، رئيس أطباء مصر والشام» ومعاصره «علاء الدين علىّ بن النفيس البغدادى، الطبيب».
ويلحق بذلك ما اشتهر من أن «العلاء» الذى نتحدث عنه هنا، عاش حياته أعزب ومتفرغاً عن الزواج للعلم. وهذا خطأ، فقد وجدته يذكر فى مخطوطة له عنوانها «شرح كليات القانون» ابناً له، أشار إليه عَرَضاً فى معرض كلامه عن ابتداء عمل الحواس الخمس عند المواليد «حديثى الولادة» إذ يقول: «وهذا ولدى محمد، فى زمن طفولته، كان قد ارتضع من أمه عقيب أكلها بصلةً، فنفر منها؛ فعرفتُ أنه أدرك رائحة البصل..».