الحرية والحب والمرأة في ” متاهة إبليس “
يعتمد الشاعر والروائي العراقي برهان شاوي في منجزه الروائي، منهجا عقلانيا نقديا تحليليا قائما على مبادئ وقناعات نسبية مستمدة من التعامل مع الواقع التاريخي الاجتماعي
المهدي مستقيم
كاتب وباحث اجتماعي مغربي
يعتمد الشاعر والروائي العراقي برهان شاوي في منجزه الروائي، منهجا عقلانيا نقديا تحليليا قائما على مبادئ وقناعات نسبية مستمدة من التعامل مع الواقع التاريخي الاجتماعي، ويتخذه مرجعا أساسيا في البحث عن الحقائق الإنسانية، معتبرا المعرفة مجهودا إنسانيا متطورا باستمرار يمكن من الانتقال من الثابت إلى المتحول.
إن هذا المنهج يتناقض جملة وتفصيلا مع المنهج الذي تقوم عليه العقلانية النقلية الدينية الحرفية الكلامية، إذ لا يخفي هذا الأخير عداوته للمخيلة الإبداعية وسرعان ما يشجع على تنامي المخيلة الخرافية، من خلال تمسكه بالموروث تمسكا حرفيا على أنه الحقيقة التامة ويتخذه مرجعا وحيدا في الحكم على الأمور حكما فاصلا قاطعا، وهذا ما أشار إليه أدونيس في كتابه «الثابت والمتحول» حين ميز بين الإبداع الذي يأتي نتيجة لتحرر المخيلة من الموروث القمعي والاتباع المرتبط بالعقلانية النقلية. وقبله طه حسين حين أوضح أن المعركة بين القديم والجديد هي معركة بين عقلانية مشككة ومخيلة تقليدية تتقبل الموروث من دون تساؤل. من هنا توصل في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» إلى رفض الشرق، واعتبر أن مصر جزءا من أوروبا « في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية. وفي كتابه «في الشعر الجاهلي» ميز طه حسين بين مذهبين في البحث: مذهب يقوم على الإيمان فيتقبل صاحبه مطمئنا ما قال به القدماء من دون تعديل، ومذهب يقوم على الشك فيقلب صاحب العلم القديم رأسا على عقب ويسبب القلق والاضطراب.
هل المتخيل وهم أم تعبير وانبثاق عن حقائق في صلب الواقع الذي نعيشه؟ ما علاقة الحلم والأسطورة والشعر والرمز والصورة والخرافة بالحياة اليومية؟ هل من تناقض بين العقلانية والمخيلة؟
إن العقلانية النقدية التحليلية التي ينهجها برهان شاوي في بعض منطلقاتها تنسجم انسجاما عميقا مع المخيلة الإبداعية، بل إنها متلازمة مع المخيلة الإبداعية.
لقد وعى برهان شاوي منذ وقت مبكر بأهمية الدراسات الفلسفية والاجتماعية والنفسية في ممارسة الكتابة الأدبية، فهذه الأخيرة بإمكانها أيضا أن تبلور معرفة متعمقة بالسلوك الإنساني ودوافعه الظاهرة والخفية، من هنا قرر برهان شاوي التوغل في الدراسات الفلسفية والنفسية والاجتماعية في سبيل إغناء كتاباته الأدبية. وهذا ما عبر عنه في كتابه «وهم الحرية»، مقاربات حول مفهوم حرية الفكر والإرادة الصادر سنة 2012 عن الدار العربية للعلوم ناشرون، إذ يقول «في فترة استعدادي لكتابة روايتي «متاهة آدم» كانت روحي ونفسي وعقلي تمور بأمواج مضطربة. كانت مصائر أبطالي، نساء ورجالا، الذين جميعهم يحملون اسم آدم أو حواء. وجدت نفسي أبحث في تاريخ الفكر البشري عن مفهوم الحرية والإرادة والجبر والاختيار. واستعدادا للغوص في الكتابة الإبداعية الروائية أجريت بحثا فكريا حول مفهوم حرية الفكر والإرادة، ناهيك عن البحوث المختلفة لرسم سيرة حياة شخصيات العمل الروائي وملامحهم وتاريخهم النفسي والاجتماعي، فالكتابة الإبداعية الروائية ليست بطرا ثقافيا أو تسلية أو قضاء وقت فائض، بل رحلة في متاهات الفكر والتاريخ الاجتماعي وتوغل إلى أعمق مغارات الذات ومنعطفات الروح المفكر».
الأدب إذن إنتاج اجتماعي ككل ما تبدعه المخيلة الإنسانية، والرواية من أكثر أنواع الفنون التصاقا بواقع الحياة، إذ تتناول الإنسان في جميع أبعاد وتشعبات حياته اليومية، تتناوله أفقيا في تفاعله مع الآخر والبيئة، كما تتناوله عميقا في تفاعله مع نفسه، والرواية من هذه الناحية إنتاج للمخيلة، ولكنها تعكس في الوقت ذاته الواقع الاجتماعي وتؤثر فيه، إما بترسيخ الثقافة السائدة أو بالمساهة في تكوين ثقافة جديدة. فالكاتب ناقد للحياة قبل كل شيء لأنه يعاني أزمة الوجود، ومن ضمن هذه المعاناة يتعامل مع المجتمع والآخر ويعبر عن تجاربه الفنية.
وهذا ما يحاول برهان إظهاره في متاهاته من خلال خمسة مفاهيم يمكن أن نعتبرها مفاتيح لنصوصه وهي
« الموت، والحرية، والعدالة، والحب والمرأة»، وهذه المفاهيم نجدها حاضرة وبقوة في روايته ما قبل الاخيرة «متاهة إبليس» الصادرة سنة 2014 عن الدار العربية للعلوم ناشرون، إذ يجد القارئ شخصيتين مطاردتين من قبل المليشيات المسلحة والأجهزة الأمنية، هما حواء ذو النورين وحواء الكرخي، شخصيتان تمزجان بين العقل والخيال من أجل رصد الواقع الاجتماعي في كل البلدان التي مرا بها من العراق وسوريا إلى إيطاليا وباريس، من هنا يصدق قول ماركس ولوكاتش في أن الإنسان يستطيع أن يفهم المجتمع الأوروبي من خلال قراءة بالزاك وغيره من الروائيين، أكثر مما يستطيع عن طريق الإحصاءات والدراسات الكمية مجتمعة، كذلك نستطيع أن نفهم المجتمع العراقي من خلال الرواية العراقية أكثر مما نستطيع ذلك عن طريق مجمل الدراسات الاجتماعية والسياسية والإحصائية والاقتصادية مجتمعة.
طرأت على مفهوم الأدب في الفكر النقدي الحديث تحولات جوهرية، حيث أضحى تعريفه قضية مطروحة بشكل دائم ومجالا مفتوحا لا يبدو أنه قابل للانغلاق، يطرحه الأدباء كما يطرحه الفلاسفة والنقاد من سارتر إلى بلانشو ورولان بارث. إن الأدب مهما تجرد فنا يبقى تعبيرا عن أفكار، ولكنها متجسدة في مواقف وفي وجود إنساني، وهو شديد الارتباط عن وعي أو غير وعي بالقيم الأخلاقية والإنسانية وبقضايا المجتمع والوجود تأثيرا وتأثرا… تقول حواء الكرخي في «متاهة إبليس»: «أنا حواء الكرخي، أشك في كل شيء. طمأنينة اليقين تخيفني، بينما قلق الشك يمنحني الطمأنينة. الشك هو الذي يقودني إلى الحقيقة، لكن الحقيقة متاهة.. متاهة تفضي إلى شك جديد.. نعم الحقيقة هي متاهة صامتة. أعتقد أن الله يحب الشكاكين أكثر من المؤمنين.. إنه يبارك قلقهم العظيم، لأن الشكاكين، يفكرون فيه دائما.. يحبونه.. يريدون أن يعرفوه بجلاله وعظمته ووجوده. المؤمنون قطيع مطمئن راكن لمصيره.. قطيع مطمئن ينتظر تبن الفردوس..لا أكثر.. نعم..نعم.. إنني أرى البعض يحمل صليبه الثقيل بصبر وبمعاناة وألم.. يصعد إلى الجلجلة بصمت الشهداء و القديسين.. بينما أرى الملايين تئن تحت شليفات من التبن.. لكن من أنا حتى أطلق أحكامي على الأخرين؟ الله نفسه يتردد أمام ضعف الإنسان فيبحث له عن حجج ليغفر له خطاياه، بينما نحن البشر نلقي بالآخرين إلى قاع الجحيم دونما رحمة…».
إذا كان الأدب لا يفكر كما تفكر الفلسفة، ولا يحتمل وجود أفكار فلسفية جاهزة تضاف إليه وتنتزع منه ، لأنها تكون بمثابة خلايا ميتة في جسد حي، وإذا لم يكن فنا لغويا صرفا ولا شكلا خاليا من مضمون، فإن الأدب وهو ينتج أشكالا وصورا وأنماطا تعبيرية وصفية وسردية وحوارية، ينتج في الآن ذاته «أفكارا» ويطلق «رسائل»، ولكنها ليست أفكارا مجرة كما هي المفاهيم الفلسفية، وليست رسائل مباشرة، كما هي الرسائل في التوجيهات الأخلاقية والمبادئ التعليمية وكونها كذلك لا ينقص من قيمتها كتجارب فكرية، بل يكسبها صفة خاصة وبعدا آخر.
هكذا يتبع برهان شاوي دروب التاريخ والفلسفة، مستخدما الأدب كنوعة من ماكينة لاستكشاف دروب الصيرورة الإنسانية في منظور هو بشكل عام أنثروبولوجي، إذ لا بد من التلازم بين الثقافة الفنية والثقافة العقلانية النقدية التحليلية. كما أنه لا فكر واقعي من دون نظرية تعتمد التحليل والمخيلة، كذلك ليست هناك مخيلة إبداعية من دون عقلانية نقدية. يقول لنا هيدغر إن جوهر العمل الفني هو صيرورة الحقيقة والكشف عنها.