Foto von Kristina Paukshtite: https://www.pexels.com/de-de/foto/mutter-halt-ihr-baby-3270224/

الأمومة: بين التقديس والأذية!

لم تقتصر نتائج هذه الهرمية الاجتماعية على تسويغ الإذلال وتقييد الحرية وقتل الإبداع، بل وصل الأمر إلى ظهور أشكال من العنف على اختلاف أنواعه، الممارس وفقاً لهذا التسلسل الهرمي الاجتماعي؛ فكانت مظاهر العنف الجسدي والرمزي التي يمارسها الكبار على الصغار، والآباء على الأبناء…

اسفل الخبر

ليست تربية الأطفال أمراً هامشيَّاً يُقرر بعد الإنجاب وفق المبدأ السائد في بعض المجتمعات الموبوءة: “الحياة بتربّيه” و “بيجي الولد وبتجي رزقتو معو”. إنَّ بعض الآباء يحتاجون حقَّاً إلى إعادة تأهيل نفسي وتربوي وعقلي؛ فما من كارثة تنشأ من العدم بل لكلِّ نتيجة سبب، وما نراه من انحطاط أخلاقي ونكوص تربوي واجتماعي؛ هو انعكاس حقيقي لتنشئة غير سليمة في بيئة غير سليمة وبفعل أشخاص غير أسوياء. في كتابه (إيكولوجيا الحريَّة) يذكر موراي بوكتشين أنَّ تقديس الآباء وكبار السن وحُكم العجائز نشأ من مخاوف التقدّم في العمر والقلق من الإهمال والتهميش؛ ففُرِضت سلطة الأكبر سنّاً على الأصغر في صورةٍ من صور الهَرَمية الاجتماعيَّة، يقول: “كان الشعور بعدم الأمان الناتج من التقدم بالسن موجوداً بين العجائز؛ فاستعملوا أخيراً الوسائل المتاحة كلها للسيادة على الشباب وكسب الاحترام والتبجيل”؛ وهذا ما يحاول بعض الآباء تلقينه للأبناء وفرضه بعصا الدين وسوط المجتمع.


ولم تقتصر نتائج هذه الهرمية الاجتماعية على تسويغ الإذلال وتقييد الحرية وقتل الإبداع، بل وصل الأمر إلى ظهور أشكال من العنف على اختلاف أنواعه، الممارس وفقاً لهذا التسلسل الهرمي الاجتماعي؛ فكانت مظاهر العنف الجسدي والرمزي التي يمارسها الكبار على الصغار، والآباء على الأبناء، والذكور على الإناث تحمل مسوّغاتها المُتواضَع عليها، ولو كان الفاعل مجرماً أو معتلَّاً نفسياً. إنَّ سمات النكروفيليا لا يمكن حصرها فقط في الاضطرابات الجنسية، بل تتعداها إلى المظاهر غير المباشرة التي يبديها البعض في علاقتهم مع الآخرين وتنعكس في نمط تفكيرهم وسلوكهم اليومي، ولا عجب في أن تكون الأم -التي قدّسها المجتمع والدين بصورة تعسفية مُعممة- تحمل شيئاً من السمات النكروفيلية التي تؤثر على حياة أطفالها سلباً؛ فيحملون معهم اضطراباتهم النفسية وكَدرَهم العميق حتى نهاية حياتهم، ولا يصلح العطَّار ما أفسد الدَّهر!. في كتابه (جوهر الإنسان) شرح إيريك فروم بإسهاب سمات الشخصية النكروفيليَّة، ولا بدَّ هنا من الإشارة إلى وجود فرق بين السمات الشخصية والاعتلال الجنسي أو المرض النفسي. إنَّ الأم النكروفيليَّة هي الأم التي تحوّل حياة أبنائها إلى جحيم بحجّة التربية والخوف على مصيرهم، يقول فروم: “وهناك عدد من الأشخاص الذين لا يملكون الفرصة ولا القدرة على القتل، ومع ذلك تعبّر نكروفيليتهم عن نفسها في صور أقل إيذاءً –بالمنظور السطحي- مثل الأم التي تكون دائماً مهتمة بمرض ابنها وفشله وعلامات مستقبله المظلم، وفي الوقت ذاته لن تتأثر بأيِّ تغيير جيد أو إيجابي لديه ولن تستجيب لفرح ابنها، كما أنَّها لن تلاحظ أي شيء جديد ينمو في داخله. هي لا تؤذي ابنها بصورة ظاهرة علناً لكنَّها تخنق ببطء فرحه بالحياة وإيمانه بالنمو… وأخيراً، ستنقل إليه عدوى ميلها النكروفيلي الخاص”. وفي هذا الكلام تشخيص لحالات حقيقية وتحليل لنتائجها، دون أن يكون هجوماً على الأمومة؛ فلا يغيب عن ذي عقل أنَّ الأمومة لا تكون بالإنجاب فقط.


إنَّ مظاهر تعنيف الأطفال لا يمكن حصرها في الضرب الجسدي أو الأذية النفسية الناتجة من التسلط والملاحقة وتعريض الطفل لظروف صعبة بحجّة جعله “بطلاً” جاهزاً لمواجهة الحياة، بل إنَّ آليات الإسقاط التي يمارسها الآباء على الأطفال كفيلة بجعلنا ننظر إلى ما يدعونه وسائل تربية من زاوية مختلفة؛ ففي جوهرها ليست إلا وسائل إشباعٍ لأنانية الآباء ورغباتهم في جعل الأبناء على صورتهم ووفق مزاجهم الخاص، وإن كانت هذه الوسائل على اختلافها مُسوَّغة بأنَّها لصالح الطفل وتربيته. في كتاب (علم نفس الطفل من الولادة إلى المراهقة) تقول كورين موريل: “لدى الآباء كلّهم ميل تلقائي إلى إسقاط أنفسهم على أطفالهم (…) لا يستطيع الراشد احترام الآخر؛ أي الطفل، في أعمق ما فيه إلا حين يكون حذراً ويفصل تصوّراته الخاصة عن الواقع الموضوعي”. ولن نستفيض هنا بشرح هذه المظاهر التي تُفرض قسراً على الأطفال في البيت والمدرسة، ففي كتاب (الطفل المستعجل) أمثلة واقعية وتجارب عديدة توضّح كيف يقوم بعض الآباء لا بعكس أمراضهم النفسية وتشوّهاتهم الفكرية على شخصيات أطفالهم فقط، بل كيف يعالجون مخاوفهم الدفينة من خلال هؤلاء الأطفال، يقول المؤلف: “أعتقد أنَّ كثيراً من أولئك الذين يعلمون الأطفال الصغار عن الإيدز والحرب النووية إنما يعالجون قلقهم ومخاوفهم الذاتية بإسقاطها على الأطفال”.


وبكل تأكيد، لا يحقّ لأحد في هذه البلاد أن يتدخل لينقذ طفلاً من كل هذه الممارسات والإسقاطات التي لا ذنب لهُ فيها؛ فالأطفال مُلكُ ذويهم والشؤون الأسرية “خصوصية مقدسة” لا يجب اختراقها وإن تأذَّت نفوسٌ غضَّة بسببها. يبدو أننا مدينون بألف اعتذار غير نافع لأطفالٍ حولنا، أفرغنا فيهم ساديّتنا –إن صحَّ التعبير- بقصدٍ أو بلا قصد، لكن من سيقدّم إلينا الاعتذار عن طفولتنا البائسة؟.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد