“إبراهيم بن سالقوية” والعقل الخرافي الذي يقاوم العقل العلمي
في دراسة قديمة كتبتها خلصت فيها الى عمق توغل الخرافة في الثقافة العربية. خذ مثلا العقيدة
الشعبية اليهودية التي انتشرت منهم إلى أسلاف المنطقة العربية عندما تم سبي اليهود الى بابل.
فقد وجد اليهود أن المجموع الرقمي للملح والمجموع الرقمي لاسم الله بالعبري “ياه-واه” متساوي.
فتحول الملح بسبب هذا التماثل العددي الى مادة مقدسة طاردة لكل شيطان وعفريت. ففي فترة
إقامتهم في بلاد ما بين النهرين استخدم اليهود الملح كحرز.
فكانوا يضعون كسارة ملح تحت مخدة الطفل ليحميه من تلك المخلوقات الغيبية (الجن والعفاريت) التي تفتك بالأطفال.
كما كانت المجتمعات القديمة تستورد علك البان اليمني-العماني والأريتيري فتستخدمه كدخون تدخن
به غرف المنزل لتطرد به المخلوقات الغيبية وذلك في توقيت قبل دخول المغرب.
طبعا هذه المعتقدات كانت تعمل، لأن الملح يطهر مرقد الطفل ويعقمه من البكتيريا.
والدخون يقتل ويطرد البعوض والحشرات الذي ينقل الأمراض. ومن تلك المعتقدات التضحية بذبح وإسالة دماء حيوانات فوق تربة الأرض حيث يريد الإنسان أن يبني. هذا المعتقد قديم من أيام بابل
وانتقل من بابل بتنقل الفنيقيين في الخليج والبلاد العربية الى كافة الثقافات قبل الإسلام ومازالت.
في تلك الأزمنة كان البابليون يسيلون الدماء لآلهتهم من جنس الجن والعفاريت. فكانوا يعتقدون أنها
تفضل الدم كطعام. وأما اللحم فكان يذهب الى سدنة المعبد ليأكلوا تلك اللحوم التي تردهم بالمجان.
الزّار أيضا نوع من الجن الذي يعتقد البعض أنه يزور الإنسان. فيمارس أهل إخراج الزّار حفل
الطرب لإرضاء الزّار للخروج من المِنْزَار. وهي طقوس ما زالت تمارس كعقيدة بيننا الى يومنا هذا.
مع قيام الإسلام أدرك الرسول ص أن عليه اقتلاع التّطيّر أو الخرافة والتشاؤم والمعتقدات الشعبية
التي نخرت في الثقافة المكيّة والحجازية وفي جزيرة العرب.
ولكي يحارب التّطيّر لقن الرسول ص أتباعه (ولنا) الذين دخلوا الإسلام آلية التخلص من المعتقدات
التشاؤمية والذي كانوا يمارسونه ثقافيا قبل إسلامهم عندما قال لهم قولوا:
” اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ “.
ثم منع الرسول ص. الوشم حيث كانت العرب تغرَز الجسد بإبرة حتّى يسيل الدم منه، ثمّ يُملَأ المكان المغروز بمادّة الكُحل، أو النورة، أو المداد، فيُصبح لون الجلد أخضر أو أزرق. وكان الوشم مرتبط
بمعتقدات شعبية وتغير لخلق الله للحماية من الجن وعبدة العفاريت.
وكانت العرب تستخدم ألفاظ غريبة لا يعرف معناها أو هي أسماء الشياطين أو ما أشبه ذلك كتميمة وحرز. وكانت تستخدم التولة وهو نوع من السحر يسمونه: الصرف والعطف، والتمائم: ما يعلق على
الأولاد عن العين أو الجن، وقد تعلق على المرضى والكبار،
وقد تعلق على الماشية لتحميها من العين والأمراض وتسمى أوتارا. فمنع الرسول ص كل ذلك. واقر العلماء تمائم من آيات القرآن.
وكانت العرب (كما ذكر المقريزي) تؤمن بخرزة سحرية إذا ابتلعها الشرير يتحول الى ذئب ثم يخرج ليقتل المستأذب الناس. وكانت العرب تعتقد أن المستأذبين يخرجون تحديدا في ليالي البيض، عند
اكتمال القمر.
وعند شروق الشمس يلفظها الذئب فيعود إنسانا. فسن الإسلام صيام أيام البيض ليحول في وعيهم أيام وليالي البيض من خوف ورعب إلى أيام مباركة. هكذا يستأصل الإسلام تلك المعتقدات الوثنية
السحرية من العقل الجمعي الإسلامي.
اقتصر الإرشاد النبوي الشريف على استخدام القرآن للتطهير الجسدي والروحي والذهني من الخرافة والتطير والجن والشياطين. وكانت جرعة قراءة المعوذات مع الفاتحة وآية الكرسي جرعة نبوية
قرآنية سهلة يعرف كيف يحفظها ويستخدمها كل مسلم بسيط بدون وسيط.
هكذا ألغى الدين الجديد الحاجة الى وسيط أو شيخ أو كاهن لتطهير الإنسان المادي من تلوثات المعتقدات بالمخلوقات الغيبية.
للأسف تم إعادة فتح ملفات الجن وإعادة تشكيله في الوعي الديني من خلال كتب أعادت تداول خطاب الجن والعفاريت وبشكل معمق لما نجح الرسول ص من اجتثاثه من الثقافة العربية.
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني (728هـ) يكثر من الكتابة عن الجن.
وهذا القاضي الدمشقي بدر الدين (المتوفى: 769هـ) يؤلف كتاب آكام المرجان في أحكام الجان.
وهذا الإمام جلال الدين السيوطي القاهري (911 هـ) يؤلف كتاب لقط المرجان في أحكام الجان
هذه الكتب كتبت بتفريعات منهجية على نمط كتب الأحاديث موزعة على نهج كتب وفصول وعناوين. هذا التماثل بين كتب الجن وكتب الأحاديث تؤثر على عقول قرّائها. في هذه الكتب تم إسقاط حياة
الإنسان على عملية إختلاق من هو الجن ومجتمعه.
فذكرت كتبهم أن الجن قبائل وأشكال متباينة يتاجرون ويتزاوجون ويتقاتلون ويفجرون ويبرون مثل الإنسان. ومن ثم فتحوا محور التداخل والترابط بين الإنسي والجني. فتجد مثلا القاضي بدر الدين
يطرح أسئلة غريبة تحت هذا الباب الغريب العجيب: هل تجوز الصلاة خلف الجني المسلم ؟
ثم يكتب أنه “نقل ابن أبي الصيرفي الحراني الحنبلي في فوائده عن شيخه أبي البقاء العكبري الحنبلي أنه سئل عن الجن هل تصح الصلاة خلفه فقال نعم لأنهم مكلفون والنبي – صلى الله عليه وسلم – مرسل إليهم والله أعلم “.
أما فقه التناكح بين الجن والإنس والذرية المتولدة من مثل هذا فقد تطرقت كل الكتب الثلاثة الكتابة عنه.
العالم العربي بعد إزدهار ثروة النفط الخليجية انطلاقا من السبعينيات من القرن المنصرم حصلت نقلة اضطرادية وغير مسبوقة في تاريخ الإسلام عندما اصدرت وطبعت أعداد هائلة من الكتب، من قبل
ممثلي الدين الإسلامي الرسمي، تتحدث عن علاقة الجن بالإنس وسبل التخلص منها بطرق أكثر تعقيدا من طرح الرسول ص المبسط. فبدل أن ينشغل المسلم ببناء مجتمع سببي قرآني ليفهم مشاكله
ويعالجها علائقيا انشغل وعي المسلم بالبحث عن طرق التّعالج من الجن كمسبب لأمراضه وانهزاماته.
الكتيبات التي طبعها علماء الدين للتخلص من الجن كانت معقدة، والتعقيد هذا قلّص قدرة عامة الناس من استيعابه. فما عادت الكتب الجديدة تقتصر على ترويج الإيمان والاعتقاد بقراءة المعوذات مع الفاتحة وآية الكرسي كحصن للمسلم. بل تحول الحصن الجديد الى لغز ذو كم هائل من الآيات
المقتطعة من سور كثيرة ومن أحاديث كثيرة وبتكرار لكل آية بأعداد متفاوتة يصعب على المسلم العادي حفظها. أمام التهويل هذا، افتتح بعض الشيوخ وأئمة المساجد في الخليج والبلاد العربية ورش
وعيادات لتخلص الإنسان العاجز من الجن والعفاريت والسحر مقابل دفع إكراميّة زيارة.
إعادة مركزية الجن والعفاريت في الخطاب الرسمي وبشكل غير مباشر نجح من فتح الأبواب لعودة شيوخ الخرافات والشعوذات والمعتقدات الشعبية الى الساحة وشجعتهم على ركوب الموجة. وكمحصلة
نهائية فإن ثقافة الفكر الخرافي منتعشة بين العرب.
فهذا “كورونا” وباء استشرى في العالم. عند أول الأمر حاول ممثلي المتجه الدين الرسمي من إيجاد تبرير له وحرز منه. ففسروه عند بداية ظهوره أنه نقمة الله على الصين. وعندما استفحل في بلاد
المسلمين وذهب ضحيته رجال الدين وأغلقت المساجد ومنعت الجماعات وتوقف الطواف حول الكعبة والعمرة والحج عجز رجال الدين من تفسير ما يحصل.
أمام هذا الفراغ أثمرت قريحة المروجون للفكر الخرافي من تطوير عدة خرافات.
واحدة من أشهر الخرافات والتي كتب الإعلام الغربي عن تفشيه بين العرب هو قيام جهة ما باختلاق شخصية وهمية وسموه “إبراهيم بن سالقوية”. ولكي يكتسب مصداقية وضع لإبراهيم سنة وفاة عام ٤٦٣ هجري وقالوا أنه ألف كتاب باسم ” اخبار الزمان”. وبدهاء قام شيوخ الخرافة ببث أخبار
“إبراهيم بن سالقوية” بين الأميون الرقميون. وسرعان ما قام الأميون الرقميون بترديد كل ما يرد
عليهم من شعر وأخبار الشخصية الوهمية الحديثة “إبراهيم بن سالقوية” في كل الفضاءات الرقمية العربية.
على عكس ما رغب به الخرافيون كانت حصيدة هذا الحراك وقوع انتفاضة رقمية قادها المثقفون
القرآنيون الرقميون. تلخصت عناوين المثقف القرآني بوجوب عودة المنطق السببي القرآني الذي ربط
علاقات روحانية ومادية للشفاء إلى مركزية الوعي العربي.
القرآن يخبرنا بثنائية أخذ الأسباب الروحانية (المناعة الحسية) مع أخذ الأسباب المادية (المناعة الملموسة) من خلال قصة النبي أيوب الذي أصيب بمرض جلدي فاتخذ سبب الإيمان الروحي فدعى الله فقاده الله تعالى الى السبب المادي المياه المعدنية: واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني
الشيطان بنصب وعذاب ( 41 ) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ( 42 .
طالب القرآنيون رجال الدين من العودة الى السببية القرآنية وطالبوا برفض الخرافة. فالفيروس ينتقل من الحيوان الى الإنسان من خلال وسائط لابد من معرفتها وكسر العلاقات المسببة لهذا الانتقال.
الامتناع من أكل الحيوانات البرية هذا ما قررته الصين. الامتناع من التنقل والاختلاط مع البحث عن
لقاح يقي الإصابة به ودواء يعالج من أصابهم الوباء وهذا ما قررت الدول العقلانية من إتباعه.
في هذا المقام كرر المثقف العربي للجميع أن أعيننا تتجه خلف الأخذ بالأسباب (الروحانية والمادية) وكرورا شكرهم للموقف النبيل الذي اتخذه مختبر كيورفاك CureVac المختبر الألماني. فهذا المختبر
رفض الإغراءات الأمريكية المالية الهائلة لبيع براءة اختراع اللقاح، الذي هم على وشك أن ينتجوه،
كمصل مضاد لفيروس كورونا ليكون فقط لأمريكا. بل آثر علماء المختبر (وهو مختبر ألماني خاص) أن يكون اللقاح علاجا لكل البشرية.
هنا اجتمعت القيم والمبادئ مع البيولوجيا واجتمعت السببية المعنوية مع السببية المادية وسقطت الخرافة والاتكالية.