أدب الاعتراف المنحى الغائب في ثقافتنا العربية
إذا كان أدب الاعتراف قد شكل قيمة محورية و أساسية في الثقافة الغربية بوجه عام و الأدب بوجه خاص، والذي يتضح جليًا في اعترافات جان جاك روسو و اوسكار وايلد و أندريه جيد،والتي قامت بدورًا محوريًا و منحى مهما في أدب الاعتراف في الثقافة الغربية.
إذا كان أدب الاعتراف قد شكل قيمة محورية و أساسية في الثقافة الغربية بوجه عام و الأدب بوجه خاص، والذي يتضح جليًا في اعترافات جان جاك روسو و اوسكار وايلد و أندريه جيد،والتي قامت بدورًا محوريًا و منحى مهما في أدب الاعتراف في الثقافة الغربية.
فإننا في المقابل نجد أن هذا اللون من الأدب لم يحظى باهتمام الكتاب و الكاتبات العرب،على الرغم من كم الإبداعات في مجال الأدب العربي على مر العصور،فقد ظل أدب الاعتراف في الأدب العربي على الهامش ،ولم يلقى اهتمامًا كثيرًا مثلما كان في الغرب، وظل يواجه مصيرًا مظلمًا وقاتمًا يكتنف إطلالته التي جاءت من بعض المبدعين على استحياء.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هل يخاف المبدع العربي من كتابة تفاصيل حياته الحقيقية و اعترافاته؟
الجواب أنه على الرغم من أهمية هذا اللون من الأدب في إعطاء فرصة أمام بعض الكتاب و المفكرين و المبدعين في ممارسة نوعًا من التطهر أو بمعنى أدق التخلص و التخفف من بعض الأعباء التي شكلت تجربتهم الحياتية، والبوح ببعض الأسرار عن حياتهم،إلا أننا نلحظ ونتلمس بعض العقبات تلاحق هؤلاء و تطاردهم في التحدث عن حياتهم الشخصية، والاعتراف بتفاصيل هذه الحياة. وتتأرجح هذه العقبات ما بين افتقاد الشجاعة على البوح و الاعتراف أو الخوف من حدوث تصادم مع مجتمعاتنا العربية التي ترفض مثل هذه الاعترافات،
بل الأدهى أنه في أحيان كثيرة ينظر إلى مثل هذه الاعترافات على أنها نوعًا من المجون و العبث. وفي هذا السياق يجب أن نلفت الانتباه إلى أن أدب الاعتراف يتطلب شيئين أساسيين : أولهما يخص الكاتب نفسه، وثانيهما يخص اللحظة الحضارية و الثقافية للمجتمع،
بمعنى أكثر وضوحا لأبد أن يتسم الكاتب بقدر من الشجاعة حتى تصبح الاعترافات اسما على مسمى، وقيمة ذات دلالة ومغزى، فلا يمنعه الخجل من ذكر تفاصيل حياته،وألا يحرص على أن يقدم عن نفسه صورة ناصعة البياض لا تشوبها أي شائبة،أو بطولات زائفة عن نفسه.
أما بخصوص اللحظة الثقافية و الحضارية فهي القدرة على تحمل هذه الاعترافات و تحمل بالمثل المسؤولية الأخلاقية و هذا ما نجده في الغرب بصورة واضحة للعيان.
ولعل من أبرز تلك الاعترافات في الغرب ما يسمى بالاعترافات الفلسفية التي كانت نموذجا للحرية المتاحة لهولاء أن يقدموا تفاصيل حياتهم بلا خجل أو مواربة.
ولنا في اعترافات روسو و أوغسطين النموذج البارز لتلك الاعترافات. ولعلنا في هذا السياق نلفت الانتباه إلى ما أتاح الفرصة لهذا الأدب في الغرب هو مناخ الحرية الذي يمنحه الغرب و المجتمعات الغربية لمواطنيه.
أما إذا تساءلنا عن ندرة هذا اللون من الأدب أي أدب الاعتراف في ثقافتنا و مجتمعاتنا العربية بوجه عام؟
فأننا نرى أن هذا يعود إلى أسباب اجتماعية و ثقافية ،بالإضافة إلى العادات و التقاليد الخاصة بالمجتمعات العربية،والتي تجعل الكاتب و المبدع ينحى بعيًدا،ويغرد خارج السرب، ولا يقدم على مثل هذه المغامرة.
فالكاتب العربي يجد كم من المحاذير و التابوهات لا يستطيع كسرها أو تخطيها. ولعل هذا هو السبب الحقيقي و الرئيسي لتخفي الكثير من الروائيين و الكتاب العرب وراء أقنعة من الأسماء المستعارة، وكذلك التخفي وراء شخصيات أعمالهم للكتابة كجزء مهم من سيرتهم الذاتية التي تنطوي على نوعا من الاعتراف.
ولعلنا نذكر هنا بعضا من الأمثلة على ذلك مثلا غادة السمان المعروفة بجرأتها في الولوج إلى عالم الجنس أو تابو الجنس نشرت رسائل حب غسان كنفاني و أنسي الحاج إليها ،لكنها لم تنشر رسائلها إليهم.
ومع ذلك رغم ندرة أدب الاعتراف في ثقافتنا العربية إلا أننا نتلمس بعض المحاولات التي لا ينقصها الجرأة و الشجاعة في نفس الوقت و لعل أشهرها في الأدب العربي المعاصر اعترافات (الخبز الحافي) للكاتب المغربي محمد شكري، وكذلك اعترافات لويس عوض.
أيضا يجب أن نشير إلى حقيقة تاريخية مهمة وهي أنه عندما تتوفر اللحظة الحضارية و الثقافية و مناخ الحرية مثلما حدث في القرنيين الثالث و الرابع الهجري، حيث مارس الشعراء أدب الاعتراف في قصائدهم بكل صراحة، بل و اعترفوا بأشياء يخجل الناس من الاعتراف بها.
وسبب اتجاه الشعراء إلى ذلك هي أن اللحظة التاريخية كانت تسمح بذلك، وتتمتع بقدر من الحرية، فلم تكن هناك مراقبة أو مصادرة.
ولعل هذا يتضح بجلاء في روائع الشاعر أبو نواس الذي يقص على القارئ تجاربه و هذا بمثابة اعتراف.
ولعلنا إذا تتبعنا الأسباب وراء ندرة أدب الاعتراف في ثقافتنا العربية ،سوف نجد هناك أسباب كثيرة و متنوعة بل و متداخلة وراء ندرة هذا الأدب.
ولعل من هذه الأسباب المهمة هو أن ثقافتنا العربية قائمة على الكتمان،لذا لجأ الكثير من الكتاب و المفكرين و المثقفين إلى الكتابة الدلالية ،وتحايلوا على المسالة ،من دون الاعتراف أنها تدل على حياتهم.
كذلك من الأسباب المهمة هي أن التقاليد الأدبية أعلت القيم الأخلاقية على القيم الإبداعية. كذلك العادات و التقاليد العربية التي تنظر بعين الشك و الريبة إلى صاحب الاعترافات،بل أحيانا ينظر إليه المجتمع على أنه به مس من جنون.
ولعلنا في هذا السياق نشير إلى أن المبدع العربي اليوم يتلبسه الرقيب الداخلي وهو أشد وأقسى من الرقيب الخارجي، وهذا الرقيب الداخلي على استعداد لكي يحذف تلقائيا و ذاتيا كل الاعترافات التي تتعارض مع السائد اجتماعيا.
كما أن المشكلة الحقيقية تتمحور حول أن القارئ في الوطن العربي يحكم على الكاتب من خلال اعترافاته،وذلك على العكس ما يحدث في الغرب ،فمثلا جان جينية صاحب أهم نص يدافع فيه عن الفلسطينيين وحقوقهم، يكتب اعترافات مرفوضة أخلاقيا في مجتمعاتنا العربية هل معنى ذلك أننا نكرهه؟
لو كان كاتبا عربيا لصب عليه الجميع لعناتهم، وذلك لأن القارئ العربي لا يستطيع أن يفصل بين شخصية المبدع و أعماله الفكرية.
كذلك من أهم الأسباب أيضا إلى ندرة هذا الأدب هو أن طبيعة الأدب العربي مقنع و غير صريح، فلا الأنظمة السياسية و ولا المفاهيم الاجتماعية و لا التقاليد المتوارثة فضلا عن الجهل بأصول الدين و شرائعه مكنت المبدع من الاعتراف في ما يكتبه عن تفاصيل حياته.
ومن هنا وبنظرة فاحصة ومدققة إذا أردنا أن ينتشر و يسود أدب الاعتراف في ثقافتنا العربية فلأبد من مزيد من الحرية،لأن الإبداع أي أبداع لأبد من أن توفر له مناخ من الحرية لكي يعبر عن نفسه،أيضا لأبد أن نتجاوز كم التابوهات في تقاليدنا الاجتماعية، وننقد بشجاعة كل ما يعوق انتشار هذا اللون من الأدب.
لأن في انتشار أدب الاعتراف سوف نعرف الكثير عن الحياة الخاصة أو الشخصية للمبدعين، وسوف تكون قدوة للأجيال القادمة يأخذون منها العظة و العبرة.
وهذا سوف يساعد في تقدم و نهضة الأمم و الشعوب،لأن الأدب بصفة خاصة هو تعبير عن حياة الأمم و الشعوب، و المبدعين أكثر تعبيرا عن ما يكتنف الأمم من مشاكل و عقبات. من هنا يجب أن نفسح مجال الحرية أما هذا اللون من الأدب لكي نعطي المفكرين فرصة للتعبير عن حياتهم الشخصية التي في أحيان كثيرة تمثل نموذجًا وقدوة للأجيال الصاعدة.