آيا صوفيا،الكنيسة الأرثوذكسية تعود الى قلب الإسلام
ادت التجاذبات السياسية حول مصير تراث الأمم البائدة التاريخية الى الواجهة منذ رحب الرئيس التركي رجب طيب أوردغان الأسبوع الفارط قرار المحكمة العليا التركية التي أصدرت حكما، يمهد الطريق..
عادت التجاذبات السياسية حول مصير تراث الأمم البائدة التاريخية الى الواجهة منذ رحب الرئيس التركي رجب طيب أوردغان الأسبوع الفارط قرار المحكمة العليا التركية التي أصدرت حكما، يمهد الطريق لتحويل متحف “آيا صوفيا” في مدينة إسطنبول إلى مسجد، ثم وافق في نفس اليوم الرئيس التركي على تحويل الكنيسة آيا صوفيا الى جامع إسلامي للصلوات.
مبنى آيا صوفيا أثر بيزنطي مدرج على قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو).
مما دفع منظمة اليونسكو أن تدخل على الخط السياسي لتقول أنها متأسفة لهذا القرار وذكّرت تركيا بأن عليها أن لا تجري تعديلات يغير معلم المبنى الأصلي.
وقد دخل على الخط تسيس التراث المادي العالمي دوائر الإفتاء الديني المسيحي والسياسي.
ففي هذا الخصوص أعرب البابا فرنسيس عن حزنه الشديد لقرار السلطات التركية تحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد. وقال خلال عظته الأسبوعية في ساحة القديس بطرس:
“فكري مشغول باسطنبول. أفكر في القديسة صوفيا والألم يعتصرني”.
أما المؤسسات الدينية الإسلامية فقد اتخذت مواقف متناقضة.
فتلك الدول غير المتوافقة مع سياسات السيد أوردغان سلط إعلامها الرسمي على فتاوى حررت باسم الدين الإسلامي لتُحرّم قرار تحويل آيا صوفيا الى جامع وتُحَرّم الصلاة فيه، في حين أن تلك الدول المتوافقة ذات مواقف متناغمة مع سياسات أوردغان سلط إعلامها الرسمي على فتاوى دينية ترحب بقرار أوردغان وصورته على أنه قرار يحقق رغبة الله على الأرض، ورغبت فتياهم كافة المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الصلاة في آيا صوفيا.
موقفان قاطعان متناقضان باسم دين واحد، بلا حدود إلتماس مشتركة. مواقف دينية منطلقة من فكرة:
إما مع الله أو ضده، والآخر أيضا: إما مع الله أو ضده.
مما تسبب بحالة إنشقاق عامودي بين الجماهير التي تتلقى دينها عبر المرجعيات الدينية.
علما أن مدينة إسطنبول القديمة لا تمتلئ جوامعها الحالية، ولا تكتظ جمعها بالمصلين لقلة روادها. فما كان هناك حاجة ماسة الى تحويل كنيسة محاطة باهتمام عالمي الى جامع ومن ثم تحمل قضية خوض جدل عالمي كنتيجة له.
في الفقه الإسلامي فرع اسمه فقه الأولويات.
وهو فقه لا يؤخر ما حقه التقديم أو يقدم ما حقه التأخير ولا يصغر الأمر الكبير ولا يكبر الأمر الصغير.
وقد استشهد الإمام القرطبي عند تبيانه المقاصد الكبرى والوسطى والصغرى في الإسلام بهذه الآية الكريمة:
وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ سورة الأنعام:108
وجه الدلالة: إن الآية منعت من سب آلهة المشركين وتحقيرها، وهي ذات مصلحة صغرى بلا شك، وتحفيز للناس إلى عدم عبادتها، حتى لا يسب المشركون المولى عز وجل، فكانت مفسدة سب الباري عز وجل أعظم من كل مصلحة فيها ذم لآلهة المشركين، وتحفيز الناس إلى عدم عبادتها.
يقول ابن كثير: «يقول تعالى ناهيا لرسوله والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو.»
ويقول القرطبي: «وفيها دليل على أن المحق قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين.»
فهل حقق تحويل آيا صوفيا الى جامع صالح عام كوني؟ أم صالح عام اسلامي؟ أم صالح عام للأمة التركية متعددة الديانات (المسلمة المسيحية)؟ أم إنه فقط صالح عام للقومية التركية؟
أسئلة بحاجة الى دراسات مستفيضة. ولكن بصفتي أقيم في ألمانيا فإن هذا القرار بلا شك سبب استياء لدى أهل الكنائس ورواد الكنائس الذين أعرفهم. وعلى المسلمين غير الأتراك دفع ضريبة بكونهم مسلمين. فقد تحولوا في نظرة الناس غير النقديين الى معادين للكنائس. وأصبح من المنتظر أن يقدموا تبريرات أو إتخاذ موقف ما من قرار السيد طيب أوردغان.
ولكن والذي هو غائب عن أكثرنا أن هضبة تركيا المسلمة الحالية قامت فوق تراب المملكة البيزنطية الأرثوذكسية. وكانت القبائل المغولية التركية تتوسع باسم الإسلام على حساب بيزنطة إلى أن سقطت القسطنطينية في عام 1453
عاصمتهم ووقعت تحت أيدي العثمانيين القبيلة المغولية التركية “آيا صوفيا”.
و آيا صوفيا (افتُتحت رسمياً عام 537 م) كانت الكنيسة الأرثوذكسية الأكبر أو المركز المسيحي الشرقي المنافس للمسيحية الغربية الكاثوليكية في الفاتيكان. فآيا صوفيا لم تكن محط إحترام الفاتيكان في الأزمنة الغابرة. بل كانتا كنيستين متنافستين حول طريق النجاة والخلاص المسيحي. كل كنيسة إعتبرت نهج كنيستها هو الطريق القويم.
التاريخ الإسلامي العربي لم يتواجه بشكل حاد مع الأرثوذكس. فقبائل بلاد الشام القضاعية الكلبية المسيحية أغلبها أرثوذكس. وعندما تحول معاوية بن أبي سفيان الى خليفة ظهر إسم أحد مستشاري معاوية وهو سرجون الدمشقي الأرثوذكسي.
وقد كان سرجون الدمشقي قبل ذلك موظف لدى الدولة البيزنطية الأرثوذكسية يعمل على جلب الضرائب الشامية لها. وبعد ذلك عمل سرجون الدمشقي كوزير الدخل والضرائب في الدولة الأموية. كما تحول إبن سرجون “القديس يوحنا منصور ابن سرجون الدمشقي” الى شخصية أرثوذكسية مهمة في بلاط الدولة الأموية.
لاحقا وعندما دخل الغزو الصليبي بلاد الشام كان الغزو كاثوليكي. فقامت القبائل والأسر الأرثوذكسية بالاصطفاف مع المسلمين ضد الكاثوليك. مما دفع بابا الفاتيكان الكاثوليكي حينها الى إصدار فتوى بتكفير الأرثوذكس.
ميز القائد نور الدين زنكي بعد أن درس ولاءات المسيحيين. فقرب المسيح الأرثوذكس ومنهم شخص باسم “مليح بن ليون” وجعل في يده قيادة لقطاعات الجيش و ولاه إمارة من نواحي الشام.
وبرر نور الدين الزنكي تقريبه لـ “مليح” بأنه خبير بالتنوع المسيحي وخبير بالتعدد الصليبي. وأنه أداة مهمة لتفكيك الآخر وتصنيفه بصديق أو عدو. كما أن نور قرب البطارقة الأرثوذكس وعين لهم كنائس وأمنهم على ممارسة دينهم بكل حرية. للمزيد أقرأ بسام العسلي، “نور الدين القائد”.
لذلك سيجد الباحث أن صلاح الدين الأيوبي عندما دحر الغزو الصليبي الكاثوليكي سمح للمسيح الأرثوذكس من بناء كنائس حول البيت الأقصى.
الدولة العثمانية تواجهت بشكل مباشر مع الأرثوذكس لأنهم أقاموا إمبراطوريتهم فوق الأراضي البيزنطية الأرثوذكسية. لذلك فإن التاريخ الإسلامي المسيحي العثماني يختلف عن التاريخ الإسلامي المسيحي العربي.
وعلى هامش هذا الجدل تمكنت آيا صوفيا من فتح الذاكرة الأندلسية – الإسبانية. فمباشرة بعد قرار أوردغان تداولت المجتمعات الرقمية العربية فيديو لرجل خليجي قام بزيارة جامع قرطبة وهو يتحدث بمرارة عن تحويل هذا الجامع العظيم الى كاتدرائية – جامع قرطبة والمعروفة رسمياً باسمها الكنسي كاتدرائيَّة سيدة الانتقال (بالإسبانية:Catedral de Nuestra Señora de la Asunción)] .
وكما شرحنا أن الذي غزى العالم العربي هم الكاثوليك فتم تحويل مسجد قرطبة الى كاتدرائية رومانية كاثوليكية.
وهي مقر مطران أبرشية قرطبة مكرسة لذكرى انتقال العذراء بحسب المعتقدات المسيحية وتقع في إقليم أندلسية. نظراً لوضعها كمكان عبادة إسلامي سابق، يٌعرف المبنى أيضًا باسم المسجد الكبير في قرطبة أو مـِسكيتا من قبل السكان المحليين وكلمة مـِسكيتا (بالأسبانية: Mezquita) تعني مسجد باللغة الإسبانية.
يعتبر الهيكل من أكثر المعالم الأثرية للعمارة المورسكيَّة، وهذا المبنى العربي الإسلامي تماما مثل مبنى آيا صوفيا المسيحي البيزنطي مدرج في قائمة مواقع التراث العالمي، كما تصدر سنة 2007 قائمة كنوز إسبانيا الإثنى عشر.
كان القصد من تداول فيديو تحويل جامع قرطبة الى كنيسة هو دعم قرار أوردغان الى تحويل الكنيسة الى جامع.
هكذا هب النشاط الإلكتروني إلى ترويج منطق “هذه بتلك” أو ” Tit for tat “. وتحول منطق العوام “هذه بتلك” الي القاعدة التي من خلالها يتخذ القرار وليس على أساس فقه الأولويات.
وما زالت الأيام حبلى بترويج العقل الضحل الإنفعالي بين العرب على حساب العقل النقدي المتزن.
عام 2020 عام فتح صفحات من التاريخ ما خلتها ستفتح. وهذه الأيام تخرج من خباياها مفاجئات تلو الأخرى ما كانت لتخطر علينا.
أتمنى من المثقف العربي أن لا ينخرط في معارك الساسة بل أن يجعل من رسالة نشر الوعي وبث أدوات النقد في المجتمع رسالته الأولى لكي لا يتحول العرب الى جماهير يتقاذفها الساسة يمنتا وشمالا. و
كما رأينا فإن قضية وتاريخ وملابسات آيا صوفيا قضية كبيرة وشائكة وغير سهلة.
ويجب علينا أن نضع فقه الأولويات والبحث عن ذلك القرار الذي يحقق الصالح العام الكوني في قضايا يراها سكان الكون كقضية كونية. ومن بعد الأولويات الكونية هناك أولويات الأمة العربية والإسلامية ومن ثم أولويات الأمة الوطنية ومن ثم أولويات الطائفة.
للساسة حساباتهم فلما لا تكون للمثقفين حساباتهم؟ لما لا يكون صالح البشرية هي غاياتهم؟